الأحد، 1 نوفمبر 2015

إنها وظيفتي


    كنت أراقب بأسىً على شاشة التلفاز  ، غزالاً صغيراً  يركض  على الأرضية الخضراء المترامية للسافانا الإفريقية ، ترقبه عينا الصياد و ناظور بندقية القنص  الهادئة ، "بووووم" ، و يخر ُّ الغزال أرضاً من أول طلقة . ( إنه قناصٌ ماهر  ) هكذا كنت أدردم بيني و بين نفسي . هل كانت البندقية من النوع الجيد ؟ أم أن المسافة إلى الهدف ليست ببعيدة ؟ 

    نفس المنظر يتكرّر في فيلم ( القناص الامريكي  American Sniper ( من إنتاج 2014 ، حيث ينطلق الصغير  راكضاً نحو غزالٍ اصطاده للتوّ برفقة أبيه ، الصغير  الذي يكبر ليصير واحداً من أفضل قناصي الجيش الأمريكي في التاريخ ( كريس كايل Chris Kyle  ) ب 255 إصابة منها 160 مؤكدة من قبل وزراة الدفاع الأمريكية - خلال أربع مهماتٍ له في العراق . الفيلم يتحدث بما يشبه النفس القصصي الأسطوري عن معجزة القتل النظيف ، لا يناقش الإرتباك الملازم للقرار بل يؤيد ما راح إليه القناص في كل خطواته كبطلٍ أمريكي نموذجي ، محافظ و رجل عائلة حقيقي ، مقابل العربي الهمجي الغدار ، الذي يستغل أيّ فرصة لقتل هذا المحارب النبيل القادم من خلف البحار ليثأر لقتلى 11/9 ، لقد أثار هذا الفيلم موجة من الإنتقاد لهذا التمجيد ل(الأبيض و الأسود) القادم بالوحي ، الذي لا تخطىء قراراته ، و لا يجانبه الصواب ، هرقل الجديد ، نصف إله يتحدى الزمن . أهذا هو البطل العسكري الحقيقي ؟ أهو القناص كما يجب أن يكون ؟ بطل لا ينازعه أحدٌ في اتخاذ قراره بثوانٍ معدودة ، بين إيقاف النفس و قياس المسافة ضغطة على الزناد ، "بووووم" و تنطلق الرصاصة وراء الهدف ، تسير كما وجهتها السبطانة الطويلة لبندقية القنص ، هل يقف وراء الناظور قاتل أم بطل ؟ مجرم أم منقذ ؟ كاذب أم صادق ؟ . إنّ من يتلقى الرصاصة ؛ يحمل عبء الذنب المفروض و لون الزي المناسب ؟  هل أمام الناظور غزال بريء أم ذئب يقتات على البشر  ؟ . أسئلةٌ لا تهم مخرج بروباغندا من هذا الصنف .

    في فيلم ( أعداء على الأبواب Enemy at  the Gates ) من إنتاج 2001 ، المنحول عن رواية بذات الإسم تتحدث عن حصار  ستالينغراد (فولغوغراد حالياً ) في  العام 1942 ، تروي القصة بطولة القناص الروسي الشهير  فاسيلي زاييستيف ، الذي ينسب إليه 242 قتلاً منهم 11 قناصاً في الحرب العالمية الثانية ، الفيلم أيضاً يأخذ في القصِّ من جانبٍ واحدٍ مرة أخرى ، ليس في القتل شكٌ أو تردد ، ليس في البطولة أمرٌ آخر  ، القناص يقف على مسافةٍ واضحة من الحق ، و يطلق رصاصته . لا يخلو الفيلم من تمرير نقدٍ للسوفييت و نظامهم و دعايتهم ، لكن لا شيء يعلو على قتل الألمان ، لا خلاف أن النازيين كانوا حالةً لا تتكرر كثيراً في التاريخ ، لكن ستالين لا يتكرر أيضاً . مرةً أخرى يفتقد الفيلم لأيّ حديث عن حقيقة القتل و مغزاه ، فالإنتصار  في الحرب و كسر الحصار  أهم محورٍ في فيلمٍ يحاول أن يمجد بطولة القناص المحترف الذي يقتل بأعصاب من فولاذ .

   النَفَس التوراتي النبوئي استمرارٌ  لمقولة ( نثق بالرب In GOD we trust) ، المطبوعة على الدولار الامريكي منذ العام 1956 أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بأحد عشر عاماً ، و هذا ما يؤكده فيلم ( إنقاذ الجندي ريان Saving Private Ryan ) من إنتاج 1998 ، و إن كان الفيلم بعمومه يتحدث بعمق عن الحرب و الحياة و فظائع الموت و التشريد ، إلا أن القناص مرةً أخرى لا ينفك يردد آيات التوراة في استلهامه لصراع الخير و الشر ، و رغم أن القناص هنا من صنع الخيال ، إلّا أنه مرةً أخرى ينفرد بين زملائه بحالة الإلهام هذه و لربما لنفس السبب كان مصيره الموت ، فهو  هنا لا يقتل فقط لأجل القتل هو ينقذ البشرية مقدماً التضحية القربانية الجسدية لرضى الرب ، لقد  نجح سبيلبيرغ  بإضفاء شيءٍ من الحقيقة على القناص ، شيءٍ من البشرية . 

   المخرج الغريب الأطوار  ( كوينتن تارينتينو Quentin Tarantino ) قام بكتابة و إخراج فيلمه الشهير  ( أوغادٌ مجهولون Inglorious Bastards ) عن الحرب العالمية الثانية ، مقدماً قصة سرية قتل مكونة من عدد من الجنود اليهود و هم ينفذون مهماتٍ خاصة خلف الحدود في ألمانيا و فرنسا ، و  في خضم مجموعةٍ من المواقف المضحكة المبكية يظهر البطل الالماني النازي القناص فريدريك زولر  - و هو كما قصة الفيلم محض خيال ، هذا القناص الذي قتل 250 جندياً في معركةٍ واحدة خلال عدة أيام ، جنديٌ ذكيُ يتحدث الفرنسية و الألمانية ، و يقنع جوبلز  وزير الإعلام الألماني بعرض فيلمٍ دعائيٍ عن بطولته في القنص في دار سينما تمتلكها فتاة يعجب بها - يتبين لاحقاً أنها شوشانا دريفوس اليهودية الفرنسية التي هربت من إبادة عائلتها في بداية الفيلم . ما يهمني هنا مرةً أخرى أن القناص  رجلٌ متعدد المواهب ، حادٌ كنصلٍ سكين ، باردٌ كالفولاذ ، و هاديء الأعصاب كما ينبغي لشخصٍ عظيم .

    في فنلندا الهادئة القابعة في عمق الشمال البارد يحتفظ الفناء الخلفي لكنيسة روكولاتي بجثمان أشهر قناصٍ في تاريخ الحرب الحديثة  (سیمو هاوها Simo Häyhä ) أو "الموت الأبيض" المتوفى عام 2002 ، هذا الجندي الفنلندي و ببندقية قنصٍ بسيطة بدون منظار  ، تمكن من قتل 505 جندي روسي في حرب الشتاء بين روسيا و فنلندا 1939-1940 ، و  200 إصابة أخرى غير مؤكدة . كل هذا في قرابة المائة يوم . لقد كان يتخفى بلباسٍ و قناعٍ أبيضين ، و لا يستخدم المنظار خوف أن يكشفه لمعان الزجاج لجنود الأعداء ، كان يضع شيئاً من الثلج في فمه حتى لا يشاهد الاعداء البخار المتكثف من انفاسه ، و يضغط الثلج أمام البندقية حتى لا يتناثر  بعد إطلاق النار  . سيمو كان و لا يزال صاحب الرقم القياسي ، لم يكن نصف إله ، لم يكن يحمل نبوءات التوراة و لا دعايات الحزب و لا التفوق العرقي النازي و لا رتب النبلاء ، ابن فلاحٍ بسيط ، لكنه أعظم قناص ، لم يحظ بفرصة الإنتشار عبر السينما لأنه لا فائدة إعلامية ترتجى من ذلك . فنلندا التي أذلت السوفييت ليست دولة عظمى و لا قوة حربية تتباهى بأسلحتها رغم النجاح في صد العدو . 

    سيمو البسيط أجاب عن سؤالين هامين في مقابلةٍ معه في العام 1998 ؛ السؤال الأول كان ( كيف أصبحت بهذه البراعة؟ ) ، فماذا تتوقع أن تكون الإجابة ؟ " لقد كنت ملهماً "أو "إنها موهبة عظيمة حباني بها الله" ؟ جواب من كلمةٍ واحدة ( التدريب ) نعم ، التدريب لا أكثر و لا أقل . أما السؤال الثاني  ( هل تندم على قتل هذا العدد من البشر ؟ )  و هو السؤال المتوقع دوماً ، السؤال الذي يدمغ كل حرب ، بعد انتهائها خصوصاً عندما يصفو التفكير  ، و تتضح الرؤى ، لا بد أن يكون لديه إجابةٌ وطنيةٌ "لأجل مجد فنلندا"  أو "دفاعاً عن الحرية" أو "كلنا فداء القائد المبجل حفظه الله" . مخيبٌ للآمال كان سيمو لأنه لم ير الشر خلف الأقنعة الوهمية ، لقد رأى موت الغزال لأنه كان صياداً ، الموت له هدف ، ليس قتلاً  بقدر ما هي وظيفة الجندي ، لم يكن ملهماً و لم يتنظر الوحي ، (( لقد فعلت ما طُلِب مني ، بأفضل ما استطعت )) ، إنها وظيفة أوجدتها الحرب لا أكثر  و لا أقل ، و انتهت مع انتهائها .

السبت، 16 مايو 2015








قبل ثلاثة شهورٍ تقريباً أصاب الأردن برد شديد و ثلوج تفرقت بين الشمال و الجنوب ، شُغِلْت خلال هذا التحول في الأجواء إلى البرودة بمصائر الطيور الصغيرة على عتبة نافذتي ، بين البلبلين الجميلين اللذين لم ينقطع غنائهما ، و الحمام المطوق الذي اتخذ النافذة عشاً قبل ذلك ، هناك عصفور الدوري الذي انقطعت زقزقته الصباحية عن نافذتي في الثلج .
وقفت اتفرج على النافذة بعد أن وضعت بعض فتات الخبز هناك ، رايت العصافير العصابية الصغيرة تتنقل بسرعة بين الحمامتين ، تهرب بأكبر قطعة ممكنة ، انتابني شعورٌ جميلٌ بالسعادة مع انتشار الزقزقة بينها ، و تيقنت أن الصباح قد حضر ، فلا صباح يمرق و صوت العصافير مفقود .

مددت ساقي و فتحت التلفاز و تابعت برنامجاً عن السيارات ، يتحدث السائق الإنجليزي ببرودته المعهودة عن وصول قافلة السيارات التي يرأسها إلى الصين ، و يشتكي من فقدان صوت العصافير صباحاً ، يبدو أن الصينيين أكلوا كل شيءٍ هناك في البر و الجو و الماء ، هكذا حدثت نفسي ضاحكاً و أنا أتذكر وجبات الطعام المعدة من أرجل الدببة ، إلا أن الأمر يستحق القراءة ، ربما لم يكن لديهم عصفور دوري أصلاً ، ربما لم أتجاوز عتبة الأفكار المسبقة عن شعبٍ عريق الحضارة مثل الصينيين . أمسكت جهازي المحمول و بحثت .

الصين التي نهضت بعد ثورة 1949 على يد ثوارٍ مثل ماوتسي تونغ شهدت عدة حملات تطهير و كتاباً أخضر، آسف ... كتاباً أحمر ، اختلطت الأمور مع تكاثر الأنظمة الشمولية في راسي العربي .

لم يفهم الصينيون درس لينين الذي قال عام 1918 قبل الحرب مع الجيش الأبيض في استشرافٍ لأهمية القضاء على الآفات المتوطنة كالقمل  : ("الكارثة محدقة"، "الجماهير الجائعة منهكة، وهذه المجاعة تبلغ أحياناً درجة تفوق قدرة البشر." "ثمة.. وباء (جديد) ينهال علينا: القمل، التيفوس الطفحي الذي يبيد قواتنا... (((إما سيتغلب القمل على البلشفية أو ستنتصر البلشفية على القمل.)))" "الوضع مريع") .

 فقد أراد ماوتسي سلطة مثل جاره في الإتحاد السوفييتي (ستالين) ، أرادها دولة بلا تروتسكيين بلا ثوار ، أراد أن يقوم بمجاعة عظيمة و تطهير عظيم ( المجاعة السوفياتية الهولودومر 1932-1934 و حملة التطهير الأعظم أو الإرهاب الأعظم 1936-1938 كلها من مجموع البركات الستالينية الذي تلته حملات تطهير عرقية قبل و بعد و خلال الحرب العالمية الثانية ).

 زج الحزب الشيوعي بقيادة ماوتسي تونغ بالصين في حرب الكوريتين (1950-1953) ، خلال ذلك بدأ بأول حملاته التطهيرية في 1950 ضد المناوئين للثورة بعد أن قام بتحويل الميليشيات التي قادت حرب العصابات ضد الوطنيين الصينيين و الكومينتانج (حرب اهلية) للتحرر و الاندماج في الدولة تحت قيادة الحزب الشيوعي . كانت حملة (تطهير ضد مناوئي الثورة 1950 )  تبعتها حملتان ، الثانية عام 1951 استهدفت منشوريا ( الحملة ضد الثلاثة .الفساد.البيروقراطية.القمامة) و الحملة الثالثة عام 1952ضد الأغنياء (الحملة ضد الخمسة .الرشوة.سرقة ممتلكات الدولة.التهرب من الضرائب.الخداع في العقود مع الدولة.سرقة أسرار الدولة الإقتصادية).

هذه الحملات مع إصدار قوانين الإصلاح الزراعي و إعادة توزيع الاراضي و تقنين الزواج ، انتهت بحملة (المائة وردة) عام 1957 التي سمحت للشعب أن ينتقد النظام الشيوعي الصيني ، و عندما مست ماوتسي تونغ تم إيقافها . و برغم الأسماء الخلابة و المناشير الجذابة للمواطنين ، إلا أن ماوتسي تونغ استطاع أن يقضي على معارضيه أينما كانوا ليكون القائد الأوحد الضرورة من خلال هذه الحملات المبهمة .

هل اكتفى ماو بذلك ؟ طبعاً لا ، لم يحصل بعد على المجاعة و لا التطهير  اللازمين ليكون في مستوى القائد الفذ ستالين ، بل أراد أن يتجاوزه و يتجاوز الولايات المتحدة و بريطانيا معتمداً على اقتصادٍ زراعي متهالك ( و قد كان شعار الحملة كما سترى و ترين في الصور المرفقة تجاوز أمريكا و بريطانيا اقتصادياً باستخدام آليات الإشتراكية الزراعية Agrarian Socialism ) .
بدأت حملة القفزة العظيمة للأمام ( 1958-1961 ) متضمنة حملة القضاء على الآفات الأربعة( 1958-1962 )و الآفات الأربعة هذه هي الذباب و الناموس و الجرذان و عصفور الدوري ،و باتت تعرف بحملة القضاء على عصفور الدوري لأنها لم تفلح في شيءٍ سوى القضاء على هذه الكائنات الرقيقة .

بالتأكيد لم يكن ماو قد نسي خلال الحملة و قبلها أن يقوم بتطهير البلاد من اليمينيين (1957-1959) ، فبعد حملة المائة وردة اكتشف أن البلد مليئة باليمينيين و هي فرصة اخرى لقتل المزيد من معارضيه . و حتى بعد فشل حملة القفزة العظمى للأمام فقد تابع ماو تطهير البلاد بحملته الثقافية المعروفة 1966-1976 لتنقية الصين من أعداء الشيوعية المزعومين مستخدماً الحرس الأحمر للقضاء على الأمور الأربعة القديمة ( العادات . الأفكار.الثقافة.العرف) و أصبح الكتاب الاحمر حالة رمزية للكتاب الأوحد الذي يكفي لتعيش أيها المواطن البائس . لقد تفوق أخيراً على ستالين و فاقَهُ قتلاً و تشريداً ، و انفصل عن الإتحاد السوفييتي ، و صافح الأمريكيين ، و حارب فييتنام حليف الأمس ، و دعم بول بوت مجرم الخمير الحمر  .

عصافير الدوري التي قضى عليها لم تكن بلا خطيةٍ إذن أو كارما ، فقد ادعى العلماء الصينيون أن العصفور الواحد يأكل من الحبوب 4.5 كيلوغرام سنوياً ، فقرر المبجل ماو أن يقوم الشعب بالقضاء على عصافير الدوري باستخدام أيما وسيلة مناسبة ، و استقدم الشعب إلى الأرياف يطبلون و يلوحون بالأعلام و يستخدمون البنادق لصيدها فقتل الملايين منها ، أراد أن يغير التاريخ فغزت الحشرات و الجراد البلاد و عمت المجاعة بعد أن أفنت الآفات المحصول لثلاث سنوات خلون بعد مقتل عصافير الدوري حتى اضطر لاستقدامها من الإتحاد السوفييتي ، لقد نسي ماو أن الذي تأكله عصافير الدوري من الحشرات أهم بكثير من بعض الحبوب التي تسرقها هذه الطيور الرقيقة . مات ما يقدر بين 15 مليون إلى 45 مليون إنسان ، و خلت الصين من صوت العصافير .

خرجت من سديم الإنترنت المدوي ، قمت إلى كيس الخبز ، أخذت رغيفاً صغيراً و مزقته على عتبة النافذة ، شاهدت العصافير تتقافز عصابيةً كما عهدتها . أردت أن أمد يدي إليها فهربت مسرعة تصفق بأجنحتها ، لا تهوى الأسر و لا تعيش فيه ، تزقزق من بعيد فاترك لها النافذة ، أحب أن أستمع لصوتها صباحاً .

ملاحظة: قام الرفيق ماو باستبدال الدوري ببق السرير عام 1960 بعد الفشل الذريع ، و في 1998 قامت حملة لانعاش القضاء على الآفات الأربعة و كان الصرصور المنزلي مكان الدوري في هذه الحملة كما في الصور الملحقة . (الصور و تواريخها أقدم من بداية الحملة كما أن 1960 شهد تغيير شعار الحملة باستبدال الدوري من الصور )

الثلاثاء، 5 مايو 2015

ألسنا كلنا عبيداً ؟ شوق الدرويش لحمور زيادة



ألسنا كلنا عبيداً؟

رواية شوق الدرويش لحمور زيادة

  بين الشوق و الشوك  عبودية عُمْرٍ يتمدد متثائباً بلظى الحنين و الحب ، هكذا يتفاعل حمور زيادة في روايته الثانية ( شوق الدرويش) ، مع عمق تاريخ السودان الضارب في السواد و الصوفية .
  و قبل أن نغوص في بحار حمور زيادة التاريخية ، علينا أن نتحدث قليلاً عنه و عن التاريخ المصاحب للرواية ؛ حمور صحافي و مدون و قاص و روائي سوداني من مواليد أم درمان ( عاصمة المهدية و نهاية خلافتها حيث تدور أغلب أحداث الرواية ) تعرض للانتقاد و التحقيق في عام 2009 في السودان فترك البلاد حاطاً رحاله في مدينة القاهرة ، و كان قد صدر له قبل هذه الرواية مجموعتان قصصيتان (سيرة أم درمانية – 2008) و ( النوم عند قدمي جبل – 2014) و رواية ( الكونج-2010 ) . فهو إذن ليس غريباً عن أحداث الرواية مكاناً و لا صلةً ، فالرواية التي عمل عليها منذ 2011 امتصت رحيق القلب و لا بد، و حملت صوت الجدة التي أودعته سر الحكايات القديمة .
  و لكن رواية كالتي بين يدي الآن من إصدار (دار العين للنشر) في طبعتها الثالثة لابد أن تستفزك لقراءة تاريخ السودان ، أو إعادة قراءته في ظل أحداث اليوم في العالم العربي . الرواية تقع في 460 صفحة من القطع المتوسط ، الغلاف الأمامي يحمل صورة للأب جوزيف اورفالدر النمساوي و راهبتين و خادمتهم عديلة في أزياء سودانية شعبية و الصورة من كتابه ( عشر سنواتٍ في الأسر في معسكر المهدي ) ، و على الغلاف نفسه تذييل تعرف منه أن الرواية فازت بجائزة نجيب محفوظ للأدب للعام 2014  و أنها مرشحة للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية للعام 2015 ( و رشحت للقائمة القصيرة لاحقاً) . الطباعة رديئة نوعاً ما و هناك صفحاتٌ باهتة ، الأسماء البارزة في الرواية للشخصيات حادت عن موقعها ، هناك أخطاء مطبعية عديدة و فقرٌ بتشكيل النص الصعب المعاني ، كان يجب تداركه مع تكرار الطبعات ، قص أطراف الرواية بالمجمل مهمل حتى أنك تحسبها "نسخةً مضروبة" أو مقلدة . يقدم حمور الرواية بكلمتين ( إلى التي ...) و بجملة لابن عربي ( كل شوقٍ يسكن باللقاء ، لا يعول عليه) ، و الختام أيضاً لابن عربي (شوقٌ بتحصيل الوصال يزول ، و الإشتياق مع الوصال يكون ، إن التخيل للفراق يديمه عند اللقاء . فربة مغبون من قال هون صعبة ، قلنا له ما كل صعبٍ في الوجود يهون هو صفات العشق لا من غيره . و العشق داءٌ في القلوب دفين .)- كما اختار حمور أن يَصُفّ أبيات الشعر بهذه الطريقة  . أما الغلاف الخلفي للرواية فهو مقطع من حديث الحسن الجريفاوي لزوجته و حبيبته فاطمة :
"ناداني الله يا فاطمة.
أما ترين ما أصاب الدين من بلاء؟
تغير الزمان. ملئت الارض جوراً. الترك، الكفار ، بدلوا دين الله . أذلوا العباد.
ألا أستجيب لداعي الله و رسوله إذا دعاني لما يحييني ؟
سنجاهد في سبيل الله . في شأن الله.
نغزو الخرطوم . نفتح مكة . نحكم مصر .
ننشر نور الله في الأرض بعد إظلامها .
وعدُ اللهِ سيدنا المهدي عليه السلام . و ما كان الله مخلفاً وعده مهديه يا فاطمة.
واجبة علينا الهجرة. واجب علينا نصرة الله.
عجلت إليك ربي لترضى. عجلت إليك ربي لترضى.
عجلت إليك .. و تركت فاطمة ورائي ."
    الإنغماس في سحر السودان ، حالة لا تخلو من التصوف الذي يحيط بكل ما في هذه البلاد البعيدة في عمق أفريقيا ، ولكننا لا بد نتساءل قبل أن نقرأ الرواية عن السودان الحالي ، فإن كان اليونان نسبوا الأحباش إلى حرقة وجوههم ، فقد سمى العرب البلاد باسم أصحاب البشرة السوداء ، فبلاد السودان ( مقابل البيضان . كما في كتاب الجاحظ فخر السودان على البيضان) ، هذه البلاد التي تحيطها بلاد عميقة التاريخ كالحبشة و مصر و اليمن أصبحت بعد انتصار محمد علي على مملكة الفونج الزرقاء في عام 1821 تابعة لبلاد مصر رسمياً و بدأت ملامحها تتشكل في حدودها الحالية .
     حكم محمد علي و خلفه (لاحقاً مع الإنجليز) و نيابة عن الترك شعوب السودان باسم الدين الإسلامي ، و اضطهدوا أهل البلاد و كلفوهم ما لا يستطيعون ، في عصر غلب عليه تحرر العبيد و الشعوب . ففي مصر يطالب عرابي باسم الشعب ( وباسم الشعب حدثت مذبحة الإسكندرية 1882 التي قتل فيها 50 أجنبياً على أثر مشاجرة بين أجنبي و مصري - لتبرر الإحتلال الإنجليزي )، و في أوروبا يطالب القوميون و الاشتراكيون باسم الشعب . أما حركات الإصلاح الديني فمحمد عبده و الأفغاني في مصر أيضاً ، و مملكة صوكوتو الإسلامية غرب السودان ، و السنوسي في الجزائر و ليبيا ، و عبر البحر الوهابيون في شبه الجزيرة العربية ،  كلٌ يطالب بإصلاح الدين على  طريقته . كل هذا يتزامن مع التغيرات في السودان ،  إذن كان للسودانيين الذين تطلعوا للحرية و إصلاح الدين أمل كبير في محمد أحمد المهدي (1843-1885) ابن جلدتهم  ، أملٌ كبير مشوب بالإيمان ،  إيمانهم بأن الدنيا ستخضع يوماً للعدل و أن الظلم سيموت ، و يدفنه المهدي في أرض غير هذه الأرض، و كان ما أرادوا ، و نجح المهدي في فتح الخرطوم 1885 منتصراً على هيكس و غوردون الإنجليزيين ، و نقل العاصمة إلى أم درمان ليخرج من دنس القديم إلى طهر الجديد . و توفي في نفس العام و دفن في أم درمان- و له مقام هناك - ليخلفه عبد الله التعايشي ود تورشين ، و في عهده تقع أغلب أحداث الرواية .
حكم التعايشي البلاد و كان سجن الساير و العبودية و الأسرى الأجانب و السبي و الحروب التي لا تتوقف  ، مظاهر على دولة لا دولة فيها فعمت المجاعة ( مجاعة سنة ستة 1306هجرية 1888ميلادية )  و استمرت هذه الخلافة من 1885 إلى 1899، فيها حاول التعايشي أن يحتل الحبشة فنجح في قتل امبراطورها يوحنا الرابع و توقف فقد تقدم الإيطاليون إلى الحبشة ، و خسر في معركة توشكي مع مصر و قتل قائده عبد الرحمن النجومي 1889، و بعث برسائل للملوك يدعوهم إلى الإيمان بالمهدية أهمها رسالة بعثها لملكة انجلترا ، يدعون أنه قال فيها أنه سيزوجها لقائده يونس ود الدكيم ، و حصل في عهده قبل دخول الإنجليز مذابح للعصاة أشهرها ( كتلة الجعليين ) التي حصلت في المتمة عام  1897على يد محمود ود أحمد . و انتهى حكم المهدية عام 1899 بانتصار الانجليز في معركة كرري (أو أم درمان) التي عرف السودانيون فيها أن الحربة و الفرس و الشجاعة لا تضاهي مدفع المكسيم الإنجليزي ( كما ذكر ذلك ونستون تشيرتشل في كتابه حرب النهر ) و قتل الخليفة في معركة ام دبيكرات . لتنتهي الحقبة المهدية و يبدأ الحكم الثنائي الإنجليزي المصري حتى الإستقلال عام 1956 و التقسيم الأخير إلى السودان و جنوب السودان 2011 .
     و الأحداث التاريخية التي ذكرتها أشار إليها تقريباً جميعها في الرواية ، فكان لا بد من ذكرها بتسلسلها الزمني ، لأن الروائي اعتمد تقنيتي الفلاش باك ، و التشظي الزمني ، و أضاف للنص الروائي تناصاً من خطابات المهدي الحقيقية ، و أبياتاً من الشعر ، و آياتٍ من القرآن الكريم ، و الكتاب المقدس ، و الشعر الشعبي ، عدا عن خطابات ثيودورا ( حواء) ، و الحوار الداخلي الذي أجراه البطلان الرئيسي  بخيت منديل ، و المساعد حسن الجريفاوي  ، حتى يكاد النص يتفلت من بين يديك و أنت تقرأ مشحوناً بالمشاعر، و خيط ذاكرتك يذوب ، لتلاحق الأسماء و الأحداث بين الواقع التاريخي و المخيال .
     الرواية تتمحور حول قصة حبٍ بين بخيت ود منديل ؛ و هو عبد أسود حالم بالحرية من جبال غرب السودان، سُرِق و بيع في سوق النخاسة ليتناوب على اقتنائه اوروبي و تركي ، و ينتهي به الحال حراً ليحارب في جيش المهدي ، و يؤسر و يباع عبداً بعد معركة توشكي فيتركه سيده بعد فترة حراً طليقاً  ، فيرجع حراً إلى أم درمان عاصمة الخلافة ، و هناك يقع في حب جارية بيضاء من سبايا المهدية من الحملة التبشيرية اليونانية ،  اسمها ثيودورا أو حواء كما سماها مالكها لاحقاً ، و تقتل ثيودورا خلال محاولتها الهروب من السودان ، و يقوم بخيت بحملة طويلة خلال الرحلة بعد 7 سنوات من السجن في الساير، باللاقتصاص من الأشخاص الستة الذين تسببوا في قتلها ، فيصطدم قدره بالحسن الجريفاوي الصوفي ، الذي ترك حبه و زوجته فاطمة ليلتحق بجيش المهدي ، و ينتهي به الأمر في خدمة التاجر الإنتهازي  إبراهيم ود الشواك . و ابراهيم أحد المتسببين في مقتل ثيودورا ، و يقتله بخيت ثأراً لها لكن الحسن يلحق به ، و يسمع قصته التي يقف مصيرها عند نهاية مفتوحة قبل الخرطوم بقليل فلا قائمة بخيت انتهت ( فقد بقي يونس ود جابر الذي خدع ثيودورا ) و لا الحسن عاد  لفاطمة ؛ التي يبقى مصيرها مجهولاً بعد أن قتل المهدية أباها الذي لم يقبل الإيمان بالخليفة ، إن الوقوف عند الخرطوم مفتوح فلم يسلمه الحسن للقتل و لا هو تركه و لكن بخيت منديل العاشق يريد لقاء محبوبته ثيودورا .
   لم أقرا رواية عربية بهذه الجودة و التعقيد التقني منذ فترة ، و لا بهذه اللغة الشعرية الجميلة ، هناك انتقاء لجمل كل شخصية  تناسب عصرها و مقامها و تعليمها ، حتى الحب لم يكن حباً . فلم تكن الفتاة البيضاء المسيحية ، على قناعة تامة بأن عبداً أسود يعرف الحب ، أو يستحق أن تحبه ، فهي طوال فترة وجودها في السودان كانت تراها بلاد الهمج السود ، فكيف يعرفون الحب ؟!
 إن مستويات الوعي بالشخوص في الرواية عالٍ،  فكل شخصيةٍ تبحث في ثورتها على شيءٍ ما ينقصها ، لكن الشخصيات كلاسيكية في مساندة الرواية التاريخية ، فهناك الإنتهازي و المخاتل و المقاتل و المحب و الصوفي و المجرم و الديكتاتور الأوحد  ، لكن أليست اللوحة السودانية انعكاساً لوعينا العربي ؟ ألم نكن نحلم بالحرية دوماً ؟ أن نكون نحن تحت قيادة الدين الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً و ظلماً ؟ لكن العدل ، ما هو العدل ؟  إن لم يكن الإنسان عدلاً كيف تكون حراً و أنت عبد في كل خطوة .
عبد للعشق و المعشوق ، عبد للرغبات ، عبد للسلطة ، و هل من قوة تحررنا إلا إخلاص العبودية للخالق ؟ و لكن العبودية تمر من خلال المهدي و الخليفة الذي طاعته واجبة بلا نقاش ، الذي لم ينقصه الإيمان ، لم تهزمه شجاعة الإنجليز ، بل هزمته مدافعهم .
"- ما من شيءٍ أحب إليّ من الشهادة
- اصبر يا ولدي فلعلك تمشي تحت راية الله ثم تحدث أمراً
- ما كنت لأحدث أمراً فيه غضب ربي
- احذر الإيمان يا ولدي فمنه ما يهلك كالكفر "
أمواج الذنوب تثقل الحسن الجريفاوي ، تزرع في قلبه الشك تحمل إليه ريح الذنب كلما تذكر الجوعى و القتلى ، لم يعد لمحبوبته فاطمة ، لم يعرف أحية أم ميتة . أصبح هائماً في عالم المادة ، ذاب في السلطة ، و ابتعد عن نقاء التصوف و لم يعد إليه .
 أشفق على بخيت الذي أضناه الشوق ، لم يجد في الحرية و لا في الانتقام حرية أخرى من العشق ،  لم يحسنا العبودية .
"قال بخيت:
-يا حاج انا لا أطلب إلا الراحة
قال له الحاج تاج الدين المغربي ( الذي يظن أنه نبي الله عيسى )
- يا شر دواب الأرض أنت في راحة
- أنا أسير أغلالي يا حاج!!
- من يخبر الأحمق أن العبد لا يبلغ الراحة حتى يحقق العبودية ؟ "
أين الحرية و كلنا عبيد لم نحسن العبودية ، على طول الرواية نركض وراء الصفحات نستكشف الجوع و الجهل و المرض و الجنس و الخوف ، نحن عبيد التاريخ ، نحن عبيد تاريخنا الذي يتكرر مع كل مهدي ، أصبح خيط الدم جبالاً زكمت أنف السماء ، انقطعت الصلة ، فلا عشق يغسل الذنب و لا وصال يجدد الوجد ، صلة أمة السماء مع السماء انقطعت حتى أصبحت حريتنا بيد الأجنبي نهرب إليه منا .
ألسنا كلنا عبيداً ؟













الأحد، 1 فبراير 2015

Modern society
Modern needs
a hole we need to feed
ثمة متسع للشك
فلا يصير الورد ندياً حتى في وعاءٍ من البلور 
ثمة من يحسب عليك البحر 
خوف أن يجف 
فتتسخ ثيابه 
ثمة من يناديك بأسماء عديدة 
كي يعزلك في هذا الكون

الثلاثاء، 20 يناير 2015

امتهان الجسد و امتهانه

                                                   امتهان الجسد و امتهانه
                                                عباد يحيى في خطوته الثانية
                                                          رواية القسم ١٤

       في عنوان مقالة في مجلة السياسة الخارجية ( Foreign Policy) الأمريكية بتاريخ التاسع عشر من يناير ٢٠١٤ لعزيزة أحمد تصف الدعارة ب " أقدم مهنة في العالم " . أتذكر بوضوح ما قاله أحد المراسلين عن بغداد بعد الإحتلال الأمريكي ( لقد عادت أقدم مهنةٍ في العالم إلى شوارع بغداد ) .

     بعد أن أثار الروائي الفلسطيني ، و الصحفي و الباحث الإجتماعي (عباد يحيى ) شهية كادت تخبو لنصٍ فلسطيني روائي أوشك أن يندثر بين النصوص الإبداعية الشعرية و الذاتية الباحثة عن هوية بعثر المنفى أصحابها، يتقدم اليوم بجرأة نحو نصّ جديد يعنونه تحت مسمى ( القسم ١٤) ، يلج من خلاله عالم الرواية مرة أخرى .

      العمل الصادر عن المركز الثقافي العربي عام ٢٠١٤ يخوض بين دفتي ١٦٠ صفحة من القطع الصغير في علاقة  الجيوش بالجنس ؛ كما يشي بذلك غلاف الكتاب ، الذي يصوّر بسطاراً عسكرياً و حذاءً نسائياً ذا كعبٍ عالٍ فاقع الحمرة على مدخل ما يبدو أنه غرفة يغمر ضوؤها زوجي النعال المنزوعة خارج الغرفة بعناية ، و إن كان البسطار يعلوه شيءٌ أقرب للدم أو الطين  ، لكن الغلاف الكرتوني لا يشي بالمعنى وراء الصورة ، و إن كان يمهد لها بصراحة يلفها الضباب .

      يصدّر الكاتب لعمله بعبارة مأخوذة من عملٍ روائي للأديب الكبير ماريو بارخاس يوسا ( إنني بحاجة إلى من يوجهون لي الأوامر ، فمن دونهم لا أدري ماذا علي أن أفعل ، و ينهار العالم من حولي . ) لبانتاليون بانتوخا بطل رواية (بانتاليون و الزائرات ) بحسب ترجمة القدير صالح علماني و الصادرة عام ١٩٧٣(الترجمة صدرت عن دار المدى في العام ٢٠٠٩) . في إشارة و إحالة واضحة إلى الرواية التي تخوض في ذات الأمر و لكن مع جنود الجيش البيروفي او البيروي و حملة الترفيه الجنسي المنظم  . و لا بد أن هذه الإشارة كافية لمن قرأ الرواية الأخرى لتتضح له خطة الرواية التي سيقدم على قراءتها و ليعلم أن عباد لم يأت بدعاً في الحديث عن المؤسسة العسكرية ، و إن كان الإنتقاء للعبارة يجمل في جواب المتسائل عن طبيعة العلاقة العسكرية بالاختيار ، فلا بد أن تصفق لعباد بقوة فقد أحسن التمهيد .

      في الرواية تقديم من سطر أو إهداء غريب ، يتضح لاحقاً في آخر الرواية ما هيته ( إلى أسباب أربع ساعات في المطار إياه )، و هو أن الرواية في الأصل حديث أدلى به العقيد ( بطل الرواية ) ، إلى الراوي الذي  فيما يبدو أنه صحفي أو باحث اجتماعي - من الأسلوب التقريري الذي تتبعه الرواية - و الهوامش  التي  و كما سنعرف لاحقاً، هي ملاحظات العقيد التي كتبها بلهجةٍ عامية قام الراوي بتفصيحها كما ينبغي لكاتب محترف ، بحيث اختفت أي لكنة من النص ، كما اختفت الشخوص و الأمكنة ، فعدا خط الزمان متسلسلاً تقطعه الهوامش ، و باستثناء أرقام الفصول الخمسة عشر ،فهناك فصل أخير هو ( أوّل الأمر) ، فإنها كلها تتبع خطاً زمنياً متسقاً حتى النهاية .

     كل فصل من الرواية فيه نص هو ما ينقله الراوي على لسانه عن العقيد ، و فيه هامش يتلوه العقيد  ذاته ، وهو ما قام بتنقيحه  راوينا من الأوراق التي سلمها له العقيد ، و فيها ملاحظاته على سير العمل في القسم ١٤ و آراؤه فيما يحصل داخل المعسكر ، و اقتراحاته ، و بحثه الذي أجراه على الإنترنت .

     من الملاحظ في النص التزامه بحياديه المكان و الشخوص و اللغة ، فباستثناء أثينا و المعسكر و منزل العقيد و منزل الضابط الأمريكي و المطار، لا توجد علامات تعرف من خلالها المكان الذي تقع فيه أحداث الرواية . و أيضاً الشخوص بلا أسماء ، كلها بلا استثناء ، حفاظاً على حياد العمل . و أكثر ما في النص حياداً لغة عباد المتينة التي اعتدناها ، و لكن هنا بلا كلمات عامية بتاتاً بعكس النفس الفلسطيني في كل ما يكتب ، ليس في الرواية كلمات دالة أو إزاحات إلى أي طرفٍ عربي سوى أن هذا الطرف صديقٌ للأمريكيين ، و إنشاء المعسكراعتراف باليد الأمريكية السابقة و رد للمعروف .

    العمل هنا عمل أشبه بالبحث الإجتماعي ، و هو يفتقد للنفس الروائي ، فلا لغة وصفية أو شعرية هنا و لا تشويق ، و لا ارتقاء في الإثارة و لا نهاية غير مرتقبة ، هناك جفاف يشبه التقارير الصحافية و أعمال الدراسات الإجتماعية المنشورة . ربما في اللاوعي ، عملت خلفية عباد في علم الإجتماع و الصحافة ، أو محاولته و بقوة أن يترك الرواية بلا ملامح واضحة .

    و سوى الإحالة على قضية الجنس و تدريب قواتٍ خاصة خالية من الملامح الشخصية و الفردية  ، تتدرب يومياً لفض الإشتباكات بشكل آلي ، تلميحٌ إلى المستقبل الذي ترسمه القوة العظمى العالمية و قطبها الأوحد العالمي الأمريكي ، لقواتٍ ليست سوى قوى أمن تم سلبها من كلِّ مقومات الجيش و العسكرية المشرفة ، و إضاءة على جانب يحتل مقعد الصدارة في قوات العالم العربي التي تخلو كلياً من العنصر النسوي الذي يتعرض للكثير من الضغوط الجنسية في جيوش تلك الدول و انتهاك العرض و التحرش الجنسي ، فيعوض عن ذلك بوسائل ترفيه متعددة قد تصل إلى خدماتٍ جنسية ممنهجة لتقليل التوتر . سوى ذلك كله فالبحث يتركك بلا ملامح محددة ، هناك طرح فضفاض يوازي أعمال الواقعيين .

    و بعكس يوسا الذي يضيف لمحة ساخرة إلى روايته ، يضع عباد في نهاية الرواية حالة توثق لشعور الشرقي العسكري ، الذي يحس أنه خان قسمه العسكري بامتهانه الترفيه الجنسي عن الجنود ، حتى تحول جيشه إلى آلة تمارس القتل و الجنس ، و تمتثل للسيد الأمريكي في القيادة المشتركة إلى الحد الذي تبدو فيه هذه المعسكرات تجربة يقوم بها الأمريكيون على أرض في هذا الشرق ، فالعقيد و صنوه المقدم المسؤولان في المعسكر يحاولان الخروج بسجلٍ نظيف من تسهيل ممارسة الرذيلة الممنهجة  ، و بكل الوسائل الممكنة خوفاً من الفضيحة . الشرقي هنا يبرز في تناقضه العميق كما العسكري ، تناقض المتلقي السلبي الرافض ، فبينما يسهل عمل "الخدمة" و إنجازها بشكل واجب إلزامي ، يرفض الإنغماس في هذا الأمر ، مستنفذاً كل وسائل الضغط للخروج من القسم ١٤ سليم الشرف و السجل .

    اللافت هنا أمر يكرره عباد و يوسا في النصين ؛  الضابط يتفوق في إنجاز عمله و يبرع فيه ، و لديه سجل نظيف حافل بالنجاح يحاول الحفاظ عليه كما ينبغي ، برغم كل الصراع الداخلي .

    إن العقيد يعيش كما هو العسكري، و كما ينبغي للنص  ( التقرير الذي بين يدينا ). النظام و الانتظام يتخلل ثنايا السياق و يتغلب على السرد ، حتى يخال لك بعد الانتهاء من القراءة أنك تسمع كلمة "نعم سيدي " في كل زوايا رأسك كرجيع الصدى . فإن كان هناك من شيءٍ نجح في نقله فهو رتابة الأمر العسكري و تسلسله بحيث أصبح النص امتثالاً لدواخل العقيد التي اعتادت كتابة التقارير الشهرية إلى القيادة المشتركة .

الاثنين، 19 يناير 2015

عام جديد..عام قديم

كل عام و له نكهة ... نصنعها أو نستصنعها ... الفارق في التوقيت يجعله عاما جديدا عام خير أو عام سوء ... لكن الأيام و الساعات والدقائق و الثواني لا تعترف بالفارق بين السنوات ... رحلة عبر الزمن يحملها هذا الجسد الأرضي الضئيل الفاني ... رحلة لا تحدها أرقام وضعناها ... و لا أيام ... و لا هي سعيدة أو حزينة ... إنها الرحلة التي نستعين بها بالاحتفالات و الاعياد لا لنتذكرها بل لنعبر اليوم إلى غد قد يكون أكثر أمانا ... ربما أكثر لوعة ... أكثر ولها أو عشقا أو مالا ... و فيما يلوح أكثر شبقا و رغبة في حياة قد تتوقف كيفما كان ... إنه الوقت صديقي الفاضل ... نريد أن يكون لنا شيء هنا على هذه الأرض ... إنجاز عظيم ما ... أثر في حياة من نحب ... طفل لا يزال ينظر بابتسامة تغرق في البراءة حتى يذوب الباقي من هذا القلب المتعب ... شيء لنا ... أنانية أخرى تكتنف اللوحة التي يعلقها أحدهم في إطار و صورتنا في الداخل تلمع بين الظلال ...

سعادة

- هل تكرهني
- لا
- هل تحبني
- لا
- ماذا تريد مني؟
- أُريد أن أحبك
- أًًسعدني بحبك إذن
- لا أستطيع

رمل

إنها الأساطير
حبات الرمل تتدفأ على شاطيء مشمس
و يتمدد الجد هناك
ينساب بعفوية عن حب الشمس للقمر
لكن القدر
أن يركضا على شاطيء 
فيرتفع الموج

مؤامرة و أفكار

البوست هو لوضع النقاط على الحروف ... ببساطة ... العمل شرعيا ليس بحرام ... الذين قاموا به عرب و مسلمون ... الدرس هنا :
اولا ... هناك مشكلة في المنظومة الفقهية و قراءة النص و فهمه .. ما تقوم به القاعدة و غيرها لا بل خلافات الاسلاميين قبل ذلك مثل انشقاقات الاخوان و القاعدة و اخيرا في مصر الشوقيون و في سوريا النصرة و داعش و الجبهة الاسلامية ... و كلها منظومات اسلامية قائمة على فكر اسلامي انشقاقات بين الاخ و اخيه دموية اكثر من كل الغرب ... اذن فالاصلاح اولا بالبيت الداخلي ... اما الانكار الاجوف و هذا ليس اسلاما و هذه مؤامرة ...فهذا انكار جهل و تضليل لا انكار علم .
ثانيا ... أن الدول الغربية و ان كانت تريد هي و اي صهيوني القضاء علينا فلغبائنا و لانتشار الفتاوى و الفضائيات التي تنشر ما تشاء بيننا ونردد وراء الملتحي ببلاهة كأن لا عقول لأمة انارت العالم ... اخي ... هناك ثغرات يتسرب منها رجال المخابرات الغربيون ... لا بل يستفيد منها الحكام العرب و المسلمون المتسلطون بسيوف الفقهاء على رقاب العباد ... هناك نتوقف و نتحدث ... نصلح انفسنا و لا ننكر جهل ابنائنا و لا خطرهم على العالم و علينا ...
ثالثا ... شماعة الغرب كانت معلقة على الاجناس الاخرى السود و الصفر و الحمر و بعدها نشأ وهم عبء الرجل الابيض لاصلاح العالم ... فاستعمروه و نهبوه ... و بعدها علقوا مشانق اليهود ... و اليوم دور المسلمين ... هناك مصالح لا تغفل عنها العين و لكن يغفل عنها القلب ...
رابعا ... اعمل عينك و عقلك و اترك قلبك لترى .. و انس نظرية المؤامرة

بعيد

بعيد
على مرمى رصاصة
أنت
بعيد
على جناح كلمة
أنت
بعيد
على صدى نبضة
أنت
بعيد
كخفقة جفن متعب
أنت
بعيد
في ليلة لم تقو على الرحيل
أنت
بعيد

أشعة الشمس

تتراكم أشعة الشمس على جدران عقلي
أريد أن أغلق كوة العينين
لا بأس بنظارة شمسية
تعطي ظلا أزرق يناسب الأفكار الجديدة
أريد أن أقابلك في الحلم

الأحد، 18 يناير 2015

من عمر زهرة برية ... مر عام ...

قضية الشرف

في قصة منقولة عن د. علي الوردي يتحدث فيها عن جرائم الشرف بالعراق، يسرد فيها قصة رجل من الريف العراقي يجلس على قهوة من مقاهي بغداد .
أحد الجالسين قال له : يا شيخ أكو قشة على عقالك (يعني عند الريفي أن شرفه مثلوم) . فذهب إلى منزله و قتل إحدى بناته و رجع إلى المقهى فخوراً ، و تكرر الأمر مرتين بعدها و على نفس المنوال .
 في المرة الرابعة قال للجالس أمامه أنه لم يعد عنده بنات ، فقام الجالس و أزاح قشة عن عقال الرجل (قشة حقيقية) ...
مهما كانت القصة سواء حقيقية أم خيالية أم أنها نكتة يتندر بها أهل المدن على أهل الريف ،فالمقصود هنا قيمة المرأة .
و قد تسمع نفس الرواية و لكن بصيغة قشة على شاربك، ما يعنيني هنا في كل الأحوال أن المرأة كانت و لا تزال في جرائم الشرف بالعراق تقتل و يعلق ذووها يدها إما في الرقبة أو على باب المنزل كناية عن نقاء شرفهم و خلوه من الخدوش و الرتوش.
 المرأة العربية في المجمل خجولة و أكثر براءة من غيرها و هي الأم و الأخت و الزوجة و الحضن الدافيء الذي نلجأ إليه ،و مبدأ التعميم و التغاضي عن أخطاء الرجل كذب و نفاقز؛ فالزنا جريمة من شخصين على الأقل ، و كلاهما مذنب بنفس القدر .

حاجات و كاميرات

تذهب إلى المرافق العامة لتقضي حاجتك
تطور جديد
مرآة في الحمام
تلم نفسك و حاجتك
و تهرول خارج
الكاميرات وصلت إلى هنا !
After seeing your picture I will develop the habit of searching the audience faces for you !
يمر بعضهم بك كما يمر طيف ملاك
لا تراه ولكن تشعر بيده الحانية على كتفك
 .. و تبتسم

عن مصر و الثورة 2011

لليوم الأول من تاريخ الذات المدعوة ظلماً روحاً
هل ماتت روح الثورة في مصر ؟
هل سيعيد التاريخ ذاته و نبقى حيث كنا
مكتوب علينا جهل القهر المسموم
...و حكم العسكر

شمس و صيف

تحرق دموع الشمس الذهبية ما تبقى من لزوجة الشتاء و رطوبته
تخرج الأيام الباقية من ربيع العمر
تنشر ما تبقى
ليس بعد الصيف إلا عتمة الخريف
القادم