السبت، 16 مايو 2015








قبل ثلاثة شهورٍ تقريباً أصاب الأردن برد شديد و ثلوج تفرقت بين الشمال و الجنوب ، شُغِلْت خلال هذا التحول في الأجواء إلى البرودة بمصائر الطيور الصغيرة على عتبة نافذتي ، بين البلبلين الجميلين اللذين لم ينقطع غنائهما ، و الحمام المطوق الذي اتخذ النافذة عشاً قبل ذلك ، هناك عصفور الدوري الذي انقطعت زقزقته الصباحية عن نافذتي في الثلج .
وقفت اتفرج على النافذة بعد أن وضعت بعض فتات الخبز هناك ، رايت العصافير العصابية الصغيرة تتنقل بسرعة بين الحمامتين ، تهرب بأكبر قطعة ممكنة ، انتابني شعورٌ جميلٌ بالسعادة مع انتشار الزقزقة بينها ، و تيقنت أن الصباح قد حضر ، فلا صباح يمرق و صوت العصافير مفقود .

مددت ساقي و فتحت التلفاز و تابعت برنامجاً عن السيارات ، يتحدث السائق الإنجليزي ببرودته المعهودة عن وصول قافلة السيارات التي يرأسها إلى الصين ، و يشتكي من فقدان صوت العصافير صباحاً ، يبدو أن الصينيين أكلوا كل شيءٍ هناك في البر و الجو و الماء ، هكذا حدثت نفسي ضاحكاً و أنا أتذكر وجبات الطعام المعدة من أرجل الدببة ، إلا أن الأمر يستحق القراءة ، ربما لم يكن لديهم عصفور دوري أصلاً ، ربما لم أتجاوز عتبة الأفكار المسبقة عن شعبٍ عريق الحضارة مثل الصينيين . أمسكت جهازي المحمول و بحثت .

الصين التي نهضت بعد ثورة 1949 على يد ثوارٍ مثل ماوتسي تونغ شهدت عدة حملات تطهير و كتاباً أخضر، آسف ... كتاباً أحمر ، اختلطت الأمور مع تكاثر الأنظمة الشمولية في راسي العربي .

لم يفهم الصينيون درس لينين الذي قال عام 1918 قبل الحرب مع الجيش الأبيض في استشرافٍ لأهمية القضاء على الآفات المتوطنة كالقمل  : ("الكارثة محدقة"، "الجماهير الجائعة منهكة، وهذه المجاعة تبلغ أحياناً درجة تفوق قدرة البشر." "ثمة.. وباء (جديد) ينهال علينا: القمل، التيفوس الطفحي الذي يبيد قواتنا... (((إما سيتغلب القمل على البلشفية أو ستنتصر البلشفية على القمل.)))" "الوضع مريع") .

 فقد أراد ماوتسي سلطة مثل جاره في الإتحاد السوفييتي (ستالين) ، أرادها دولة بلا تروتسكيين بلا ثوار ، أراد أن يقوم بمجاعة عظيمة و تطهير عظيم ( المجاعة السوفياتية الهولودومر 1932-1934 و حملة التطهير الأعظم أو الإرهاب الأعظم 1936-1938 كلها من مجموع البركات الستالينية الذي تلته حملات تطهير عرقية قبل و بعد و خلال الحرب العالمية الثانية ).

 زج الحزب الشيوعي بقيادة ماوتسي تونغ بالصين في حرب الكوريتين (1950-1953) ، خلال ذلك بدأ بأول حملاته التطهيرية في 1950 ضد المناوئين للثورة بعد أن قام بتحويل الميليشيات التي قادت حرب العصابات ضد الوطنيين الصينيين و الكومينتانج (حرب اهلية) للتحرر و الاندماج في الدولة تحت قيادة الحزب الشيوعي . كانت حملة (تطهير ضد مناوئي الثورة 1950 )  تبعتها حملتان ، الثانية عام 1951 استهدفت منشوريا ( الحملة ضد الثلاثة .الفساد.البيروقراطية.القمامة) و الحملة الثالثة عام 1952ضد الأغنياء (الحملة ضد الخمسة .الرشوة.سرقة ممتلكات الدولة.التهرب من الضرائب.الخداع في العقود مع الدولة.سرقة أسرار الدولة الإقتصادية).

هذه الحملات مع إصدار قوانين الإصلاح الزراعي و إعادة توزيع الاراضي و تقنين الزواج ، انتهت بحملة (المائة وردة) عام 1957 التي سمحت للشعب أن ينتقد النظام الشيوعي الصيني ، و عندما مست ماوتسي تونغ تم إيقافها . و برغم الأسماء الخلابة و المناشير الجذابة للمواطنين ، إلا أن ماوتسي تونغ استطاع أن يقضي على معارضيه أينما كانوا ليكون القائد الأوحد الضرورة من خلال هذه الحملات المبهمة .

هل اكتفى ماو بذلك ؟ طبعاً لا ، لم يحصل بعد على المجاعة و لا التطهير  اللازمين ليكون في مستوى القائد الفذ ستالين ، بل أراد أن يتجاوزه و يتجاوز الولايات المتحدة و بريطانيا معتمداً على اقتصادٍ زراعي متهالك ( و قد كان شعار الحملة كما سترى و ترين في الصور المرفقة تجاوز أمريكا و بريطانيا اقتصادياً باستخدام آليات الإشتراكية الزراعية Agrarian Socialism ) .
بدأت حملة القفزة العظيمة للأمام ( 1958-1961 ) متضمنة حملة القضاء على الآفات الأربعة( 1958-1962 )و الآفات الأربعة هذه هي الذباب و الناموس و الجرذان و عصفور الدوري ،و باتت تعرف بحملة القضاء على عصفور الدوري لأنها لم تفلح في شيءٍ سوى القضاء على هذه الكائنات الرقيقة .

بالتأكيد لم يكن ماو قد نسي خلال الحملة و قبلها أن يقوم بتطهير البلاد من اليمينيين (1957-1959) ، فبعد حملة المائة وردة اكتشف أن البلد مليئة باليمينيين و هي فرصة اخرى لقتل المزيد من معارضيه . و حتى بعد فشل حملة القفزة العظمى للأمام فقد تابع ماو تطهير البلاد بحملته الثقافية المعروفة 1966-1976 لتنقية الصين من أعداء الشيوعية المزعومين مستخدماً الحرس الأحمر للقضاء على الأمور الأربعة القديمة ( العادات . الأفكار.الثقافة.العرف) و أصبح الكتاب الاحمر حالة رمزية للكتاب الأوحد الذي يكفي لتعيش أيها المواطن البائس . لقد تفوق أخيراً على ستالين و فاقَهُ قتلاً و تشريداً ، و انفصل عن الإتحاد السوفييتي ، و صافح الأمريكيين ، و حارب فييتنام حليف الأمس ، و دعم بول بوت مجرم الخمير الحمر  .

عصافير الدوري التي قضى عليها لم تكن بلا خطيةٍ إذن أو كارما ، فقد ادعى العلماء الصينيون أن العصفور الواحد يأكل من الحبوب 4.5 كيلوغرام سنوياً ، فقرر المبجل ماو أن يقوم الشعب بالقضاء على عصافير الدوري باستخدام أيما وسيلة مناسبة ، و استقدم الشعب إلى الأرياف يطبلون و يلوحون بالأعلام و يستخدمون البنادق لصيدها فقتل الملايين منها ، أراد أن يغير التاريخ فغزت الحشرات و الجراد البلاد و عمت المجاعة بعد أن أفنت الآفات المحصول لثلاث سنوات خلون بعد مقتل عصافير الدوري حتى اضطر لاستقدامها من الإتحاد السوفييتي ، لقد نسي ماو أن الذي تأكله عصافير الدوري من الحشرات أهم بكثير من بعض الحبوب التي تسرقها هذه الطيور الرقيقة . مات ما يقدر بين 15 مليون إلى 45 مليون إنسان ، و خلت الصين من صوت العصافير .

خرجت من سديم الإنترنت المدوي ، قمت إلى كيس الخبز ، أخذت رغيفاً صغيراً و مزقته على عتبة النافذة ، شاهدت العصافير تتقافز عصابيةً كما عهدتها . أردت أن أمد يدي إليها فهربت مسرعة تصفق بأجنحتها ، لا تهوى الأسر و لا تعيش فيه ، تزقزق من بعيد فاترك لها النافذة ، أحب أن أستمع لصوتها صباحاً .

ملاحظة: قام الرفيق ماو باستبدال الدوري ببق السرير عام 1960 بعد الفشل الذريع ، و في 1998 قامت حملة لانعاش القضاء على الآفات الأربعة و كان الصرصور المنزلي مكان الدوري في هذه الحملة كما في الصور الملحقة . (الصور و تواريخها أقدم من بداية الحملة كما أن 1960 شهد تغيير شعار الحملة باستبدال الدوري من الصور )

الثلاثاء، 5 مايو 2015

ألسنا كلنا عبيداً ؟ شوق الدرويش لحمور زيادة



ألسنا كلنا عبيداً؟

رواية شوق الدرويش لحمور زيادة

  بين الشوق و الشوك  عبودية عُمْرٍ يتمدد متثائباً بلظى الحنين و الحب ، هكذا يتفاعل حمور زيادة في روايته الثانية ( شوق الدرويش) ، مع عمق تاريخ السودان الضارب في السواد و الصوفية .
  و قبل أن نغوص في بحار حمور زيادة التاريخية ، علينا أن نتحدث قليلاً عنه و عن التاريخ المصاحب للرواية ؛ حمور صحافي و مدون و قاص و روائي سوداني من مواليد أم درمان ( عاصمة المهدية و نهاية خلافتها حيث تدور أغلب أحداث الرواية ) تعرض للانتقاد و التحقيق في عام 2009 في السودان فترك البلاد حاطاً رحاله في مدينة القاهرة ، و كان قد صدر له قبل هذه الرواية مجموعتان قصصيتان (سيرة أم درمانية – 2008) و ( النوم عند قدمي جبل – 2014) و رواية ( الكونج-2010 ) . فهو إذن ليس غريباً عن أحداث الرواية مكاناً و لا صلةً ، فالرواية التي عمل عليها منذ 2011 امتصت رحيق القلب و لا بد، و حملت صوت الجدة التي أودعته سر الحكايات القديمة .
  و لكن رواية كالتي بين يدي الآن من إصدار (دار العين للنشر) في طبعتها الثالثة لابد أن تستفزك لقراءة تاريخ السودان ، أو إعادة قراءته في ظل أحداث اليوم في العالم العربي . الرواية تقع في 460 صفحة من القطع المتوسط ، الغلاف الأمامي يحمل صورة للأب جوزيف اورفالدر النمساوي و راهبتين و خادمتهم عديلة في أزياء سودانية شعبية و الصورة من كتابه ( عشر سنواتٍ في الأسر في معسكر المهدي ) ، و على الغلاف نفسه تذييل تعرف منه أن الرواية فازت بجائزة نجيب محفوظ للأدب للعام 2014  و أنها مرشحة للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية للعام 2015 ( و رشحت للقائمة القصيرة لاحقاً) . الطباعة رديئة نوعاً ما و هناك صفحاتٌ باهتة ، الأسماء البارزة في الرواية للشخصيات حادت عن موقعها ، هناك أخطاء مطبعية عديدة و فقرٌ بتشكيل النص الصعب المعاني ، كان يجب تداركه مع تكرار الطبعات ، قص أطراف الرواية بالمجمل مهمل حتى أنك تحسبها "نسخةً مضروبة" أو مقلدة . يقدم حمور الرواية بكلمتين ( إلى التي ...) و بجملة لابن عربي ( كل شوقٍ يسكن باللقاء ، لا يعول عليه) ، و الختام أيضاً لابن عربي (شوقٌ بتحصيل الوصال يزول ، و الإشتياق مع الوصال يكون ، إن التخيل للفراق يديمه عند اللقاء . فربة مغبون من قال هون صعبة ، قلنا له ما كل صعبٍ في الوجود يهون هو صفات العشق لا من غيره . و العشق داءٌ في القلوب دفين .)- كما اختار حمور أن يَصُفّ أبيات الشعر بهذه الطريقة  . أما الغلاف الخلفي للرواية فهو مقطع من حديث الحسن الجريفاوي لزوجته و حبيبته فاطمة :
"ناداني الله يا فاطمة.
أما ترين ما أصاب الدين من بلاء؟
تغير الزمان. ملئت الارض جوراً. الترك، الكفار ، بدلوا دين الله . أذلوا العباد.
ألا أستجيب لداعي الله و رسوله إذا دعاني لما يحييني ؟
سنجاهد في سبيل الله . في شأن الله.
نغزو الخرطوم . نفتح مكة . نحكم مصر .
ننشر نور الله في الأرض بعد إظلامها .
وعدُ اللهِ سيدنا المهدي عليه السلام . و ما كان الله مخلفاً وعده مهديه يا فاطمة.
واجبة علينا الهجرة. واجب علينا نصرة الله.
عجلت إليك ربي لترضى. عجلت إليك ربي لترضى.
عجلت إليك .. و تركت فاطمة ورائي ."
    الإنغماس في سحر السودان ، حالة لا تخلو من التصوف الذي يحيط بكل ما في هذه البلاد البعيدة في عمق أفريقيا ، ولكننا لا بد نتساءل قبل أن نقرأ الرواية عن السودان الحالي ، فإن كان اليونان نسبوا الأحباش إلى حرقة وجوههم ، فقد سمى العرب البلاد باسم أصحاب البشرة السوداء ، فبلاد السودان ( مقابل البيضان . كما في كتاب الجاحظ فخر السودان على البيضان) ، هذه البلاد التي تحيطها بلاد عميقة التاريخ كالحبشة و مصر و اليمن أصبحت بعد انتصار محمد علي على مملكة الفونج الزرقاء في عام 1821 تابعة لبلاد مصر رسمياً و بدأت ملامحها تتشكل في حدودها الحالية .
     حكم محمد علي و خلفه (لاحقاً مع الإنجليز) و نيابة عن الترك شعوب السودان باسم الدين الإسلامي ، و اضطهدوا أهل البلاد و كلفوهم ما لا يستطيعون ، في عصر غلب عليه تحرر العبيد و الشعوب . ففي مصر يطالب عرابي باسم الشعب ( وباسم الشعب حدثت مذبحة الإسكندرية 1882 التي قتل فيها 50 أجنبياً على أثر مشاجرة بين أجنبي و مصري - لتبرر الإحتلال الإنجليزي )، و في أوروبا يطالب القوميون و الاشتراكيون باسم الشعب . أما حركات الإصلاح الديني فمحمد عبده و الأفغاني في مصر أيضاً ، و مملكة صوكوتو الإسلامية غرب السودان ، و السنوسي في الجزائر و ليبيا ، و عبر البحر الوهابيون في شبه الجزيرة العربية ،  كلٌ يطالب بإصلاح الدين على  طريقته . كل هذا يتزامن مع التغيرات في السودان ،  إذن كان للسودانيين الذين تطلعوا للحرية و إصلاح الدين أمل كبير في محمد أحمد المهدي (1843-1885) ابن جلدتهم  ، أملٌ كبير مشوب بالإيمان ،  إيمانهم بأن الدنيا ستخضع يوماً للعدل و أن الظلم سيموت ، و يدفنه المهدي في أرض غير هذه الأرض، و كان ما أرادوا ، و نجح المهدي في فتح الخرطوم 1885 منتصراً على هيكس و غوردون الإنجليزيين ، و نقل العاصمة إلى أم درمان ليخرج من دنس القديم إلى طهر الجديد . و توفي في نفس العام و دفن في أم درمان- و له مقام هناك - ليخلفه عبد الله التعايشي ود تورشين ، و في عهده تقع أغلب أحداث الرواية .
حكم التعايشي البلاد و كان سجن الساير و العبودية و الأسرى الأجانب و السبي و الحروب التي لا تتوقف  ، مظاهر على دولة لا دولة فيها فعمت المجاعة ( مجاعة سنة ستة 1306هجرية 1888ميلادية )  و استمرت هذه الخلافة من 1885 إلى 1899، فيها حاول التعايشي أن يحتل الحبشة فنجح في قتل امبراطورها يوحنا الرابع و توقف فقد تقدم الإيطاليون إلى الحبشة ، و خسر في معركة توشكي مع مصر و قتل قائده عبد الرحمن النجومي 1889، و بعث برسائل للملوك يدعوهم إلى الإيمان بالمهدية أهمها رسالة بعثها لملكة انجلترا ، يدعون أنه قال فيها أنه سيزوجها لقائده يونس ود الدكيم ، و حصل في عهده قبل دخول الإنجليز مذابح للعصاة أشهرها ( كتلة الجعليين ) التي حصلت في المتمة عام  1897على يد محمود ود أحمد . و انتهى حكم المهدية عام 1899 بانتصار الانجليز في معركة كرري (أو أم درمان) التي عرف السودانيون فيها أن الحربة و الفرس و الشجاعة لا تضاهي مدفع المكسيم الإنجليزي ( كما ذكر ذلك ونستون تشيرتشل في كتابه حرب النهر ) و قتل الخليفة في معركة ام دبيكرات . لتنتهي الحقبة المهدية و يبدأ الحكم الثنائي الإنجليزي المصري حتى الإستقلال عام 1956 و التقسيم الأخير إلى السودان و جنوب السودان 2011 .
     و الأحداث التاريخية التي ذكرتها أشار إليها تقريباً جميعها في الرواية ، فكان لا بد من ذكرها بتسلسلها الزمني ، لأن الروائي اعتمد تقنيتي الفلاش باك ، و التشظي الزمني ، و أضاف للنص الروائي تناصاً من خطابات المهدي الحقيقية ، و أبياتاً من الشعر ، و آياتٍ من القرآن الكريم ، و الكتاب المقدس ، و الشعر الشعبي ، عدا عن خطابات ثيودورا ( حواء) ، و الحوار الداخلي الذي أجراه البطلان الرئيسي  بخيت منديل ، و المساعد حسن الجريفاوي  ، حتى يكاد النص يتفلت من بين يديك و أنت تقرأ مشحوناً بالمشاعر، و خيط ذاكرتك يذوب ، لتلاحق الأسماء و الأحداث بين الواقع التاريخي و المخيال .
     الرواية تتمحور حول قصة حبٍ بين بخيت ود منديل ؛ و هو عبد أسود حالم بالحرية من جبال غرب السودان، سُرِق و بيع في سوق النخاسة ليتناوب على اقتنائه اوروبي و تركي ، و ينتهي به الحال حراً ليحارب في جيش المهدي ، و يؤسر و يباع عبداً بعد معركة توشكي فيتركه سيده بعد فترة حراً طليقاً  ، فيرجع حراً إلى أم درمان عاصمة الخلافة ، و هناك يقع في حب جارية بيضاء من سبايا المهدية من الحملة التبشيرية اليونانية ،  اسمها ثيودورا أو حواء كما سماها مالكها لاحقاً ، و تقتل ثيودورا خلال محاولتها الهروب من السودان ، و يقوم بخيت بحملة طويلة خلال الرحلة بعد 7 سنوات من السجن في الساير، باللاقتصاص من الأشخاص الستة الذين تسببوا في قتلها ، فيصطدم قدره بالحسن الجريفاوي الصوفي ، الذي ترك حبه و زوجته فاطمة ليلتحق بجيش المهدي ، و ينتهي به الأمر في خدمة التاجر الإنتهازي  إبراهيم ود الشواك . و ابراهيم أحد المتسببين في مقتل ثيودورا ، و يقتله بخيت ثأراً لها لكن الحسن يلحق به ، و يسمع قصته التي يقف مصيرها عند نهاية مفتوحة قبل الخرطوم بقليل فلا قائمة بخيت انتهت ( فقد بقي يونس ود جابر الذي خدع ثيودورا ) و لا الحسن عاد  لفاطمة ؛ التي يبقى مصيرها مجهولاً بعد أن قتل المهدية أباها الذي لم يقبل الإيمان بالخليفة ، إن الوقوف عند الخرطوم مفتوح فلم يسلمه الحسن للقتل و لا هو تركه و لكن بخيت منديل العاشق يريد لقاء محبوبته ثيودورا .
   لم أقرا رواية عربية بهذه الجودة و التعقيد التقني منذ فترة ، و لا بهذه اللغة الشعرية الجميلة ، هناك انتقاء لجمل كل شخصية  تناسب عصرها و مقامها و تعليمها ، حتى الحب لم يكن حباً . فلم تكن الفتاة البيضاء المسيحية ، على قناعة تامة بأن عبداً أسود يعرف الحب ، أو يستحق أن تحبه ، فهي طوال فترة وجودها في السودان كانت تراها بلاد الهمج السود ، فكيف يعرفون الحب ؟!
 إن مستويات الوعي بالشخوص في الرواية عالٍ،  فكل شخصيةٍ تبحث في ثورتها على شيءٍ ما ينقصها ، لكن الشخصيات كلاسيكية في مساندة الرواية التاريخية ، فهناك الإنتهازي و المخاتل و المقاتل و المحب و الصوفي و المجرم و الديكتاتور الأوحد  ، لكن أليست اللوحة السودانية انعكاساً لوعينا العربي ؟ ألم نكن نحلم بالحرية دوماً ؟ أن نكون نحن تحت قيادة الدين الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً و ظلماً ؟ لكن العدل ، ما هو العدل ؟  إن لم يكن الإنسان عدلاً كيف تكون حراً و أنت عبد في كل خطوة .
عبد للعشق و المعشوق ، عبد للرغبات ، عبد للسلطة ، و هل من قوة تحررنا إلا إخلاص العبودية للخالق ؟ و لكن العبودية تمر من خلال المهدي و الخليفة الذي طاعته واجبة بلا نقاش ، الذي لم ينقصه الإيمان ، لم تهزمه شجاعة الإنجليز ، بل هزمته مدافعهم .
"- ما من شيءٍ أحب إليّ من الشهادة
- اصبر يا ولدي فلعلك تمشي تحت راية الله ثم تحدث أمراً
- ما كنت لأحدث أمراً فيه غضب ربي
- احذر الإيمان يا ولدي فمنه ما يهلك كالكفر "
أمواج الذنوب تثقل الحسن الجريفاوي ، تزرع في قلبه الشك تحمل إليه ريح الذنب كلما تذكر الجوعى و القتلى ، لم يعد لمحبوبته فاطمة ، لم يعرف أحية أم ميتة . أصبح هائماً في عالم المادة ، ذاب في السلطة ، و ابتعد عن نقاء التصوف و لم يعد إليه .
 أشفق على بخيت الذي أضناه الشوق ، لم يجد في الحرية و لا في الانتقام حرية أخرى من العشق ،  لم يحسنا العبودية .
"قال بخيت:
-يا حاج انا لا أطلب إلا الراحة
قال له الحاج تاج الدين المغربي ( الذي يظن أنه نبي الله عيسى )
- يا شر دواب الأرض أنت في راحة
- أنا أسير أغلالي يا حاج!!
- من يخبر الأحمق أن العبد لا يبلغ الراحة حتى يحقق العبودية ؟ "
أين الحرية و كلنا عبيد لم نحسن العبودية ، على طول الرواية نركض وراء الصفحات نستكشف الجوع و الجهل و المرض و الجنس و الخوف ، نحن عبيد التاريخ ، نحن عبيد تاريخنا الذي يتكرر مع كل مهدي ، أصبح خيط الدم جبالاً زكمت أنف السماء ، انقطعت الصلة ، فلا عشق يغسل الذنب و لا وصال يجدد الوجد ، صلة أمة السماء مع السماء انقطعت حتى أصبحت حريتنا بيد الأجنبي نهرب إليه منا .
ألسنا كلنا عبيداً ؟