قبل ثلاثة شهورٍ تقريباً أصاب الأردن برد شديد و ثلوج تفرقت بين الشمال و الجنوب ، شُغِلْت خلال هذا التحول في الأجواء إلى البرودة بمصائر الطيور الصغيرة على عتبة نافذتي ، بين البلبلين الجميلين اللذين لم ينقطع غنائهما ، و الحمام المطوق الذي اتخذ النافذة عشاً قبل ذلك ، هناك عصفور الدوري الذي انقطعت زقزقته الصباحية عن نافذتي في الثلج .
وقفت اتفرج على النافذة بعد أن وضعت بعض فتات الخبز هناك ، رايت العصافير العصابية الصغيرة تتنقل بسرعة بين الحمامتين ، تهرب بأكبر قطعة ممكنة ، انتابني شعورٌ جميلٌ بالسعادة مع انتشار الزقزقة بينها ، و تيقنت أن الصباح قد حضر ، فلا صباح يمرق و صوت العصافير مفقود .
مددت ساقي و فتحت التلفاز و تابعت برنامجاً عن السيارات ، يتحدث السائق الإنجليزي ببرودته المعهودة عن وصول قافلة السيارات التي يرأسها إلى الصين ، و يشتكي من فقدان صوت العصافير صباحاً ، يبدو أن الصينيين أكلوا كل شيءٍ هناك في البر و الجو و الماء ، هكذا حدثت نفسي ضاحكاً و أنا أتذكر وجبات الطعام المعدة من أرجل الدببة ، إلا أن الأمر يستحق القراءة ، ربما لم يكن لديهم عصفور دوري أصلاً ، ربما لم أتجاوز عتبة الأفكار المسبقة عن شعبٍ عريق الحضارة مثل الصينيين . أمسكت جهازي المحمول و بحثت .
الصين التي نهضت بعد ثورة 1949 على يد ثوارٍ مثل ماوتسي تونغ شهدت عدة حملات تطهير و كتاباً أخضر، آسف ... كتاباً أحمر ، اختلطت الأمور مع تكاثر الأنظمة الشمولية في راسي العربي .
لم يفهم الصينيون درس لينين الذي قال عام 1918 قبل الحرب مع الجيش الأبيض في استشرافٍ لأهمية القضاء على الآفات المتوطنة كالقمل : ("الكارثة محدقة"، "الجماهير الجائعة منهكة، وهذه المجاعة تبلغ أحياناً درجة تفوق قدرة البشر." "ثمة.. وباء (جديد) ينهال علينا: القمل، التيفوس الطفحي الذي يبيد قواتنا... (((إما سيتغلب القمل على البلشفية أو ستنتصر البلشفية على القمل.)))" "الوضع مريع") .
فقد أراد ماوتسي سلطة مثل جاره في الإتحاد السوفييتي (ستالين) ، أرادها دولة بلا تروتسكيين بلا ثوار ، أراد أن يقوم بمجاعة عظيمة و تطهير عظيم ( المجاعة السوفياتية الهولودومر 1932-1934 و حملة التطهير الأعظم أو الإرهاب الأعظم 1936-1938 كلها من مجموع البركات الستالينية الذي تلته حملات تطهير عرقية قبل و بعد و خلال الحرب العالمية الثانية ).
زج الحزب الشيوعي بقيادة ماوتسي تونغ بالصين في حرب الكوريتين (1950-1953) ، خلال ذلك بدأ بأول حملاته التطهيرية في 1950 ضد المناوئين للثورة بعد أن قام بتحويل الميليشيات التي قادت حرب العصابات ضد الوطنيين الصينيين و الكومينتانج (حرب اهلية) للتحرر و الاندماج في الدولة تحت قيادة الحزب الشيوعي . كانت حملة (تطهير ضد مناوئي الثورة 1950 ) تبعتها حملتان ، الثانية عام 1951 استهدفت منشوريا ( الحملة ضد الثلاثة .الفساد.البيروقراطية.القمامة) و الحملة الثالثة عام 1952ضد الأغنياء (الحملة ضد الخمسة .الرشوة.سرقة ممتلكات الدولة.التهرب من الضرائب.الخداع في العقود مع الدولة.سرقة أسرار الدولة الإقتصادية).
هذه الحملات مع إصدار قوانين الإصلاح الزراعي و إعادة توزيع الاراضي و تقنين الزواج ، انتهت بحملة (المائة وردة) عام 1957 التي سمحت للشعب أن ينتقد النظام الشيوعي الصيني ، و عندما مست ماوتسي تونغ تم إيقافها . و برغم الأسماء الخلابة و المناشير الجذابة للمواطنين ، إلا أن ماوتسي تونغ استطاع أن يقضي على معارضيه أينما كانوا ليكون القائد الأوحد الضرورة من خلال هذه الحملات المبهمة .
هل اكتفى ماو بذلك ؟ طبعاً لا ، لم يحصل بعد على المجاعة و لا التطهير اللازمين ليكون في مستوى القائد الفذ ستالين ، بل أراد أن يتجاوزه و يتجاوز الولايات المتحدة و بريطانيا معتمداً على اقتصادٍ زراعي متهالك ( و قد كان شعار الحملة كما سترى و ترين في الصور المرفقة تجاوز أمريكا و بريطانيا اقتصادياً باستخدام آليات الإشتراكية الزراعية Agrarian Socialism ) .
بدأت حملة القفزة العظيمة للأمام ( 1958-1961 ) متضمنة حملة القضاء على الآفات الأربعة( 1958-1962 )و الآفات الأربعة هذه هي الذباب و الناموس و الجرذان و عصفور الدوري ،و باتت تعرف بحملة القضاء على عصفور الدوري لأنها لم تفلح في شيءٍ سوى القضاء على هذه الكائنات الرقيقة .
بالتأكيد لم يكن ماو قد نسي خلال الحملة و قبلها أن يقوم بتطهير البلاد من اليمينيين (1957-1959) ، فبعد حملة المائة وردة اكتشف أن البلد مليئة باليمينيين و هي فرصة اخرى لقتل المزيد من معارضيه . و حتى بعد فشل حملة القفزة العظمى للأمام فقد تابع ماو تطهير البلاد بحملته الثقافية المعروفة 1966-1976 لتنقية الصين من أعداء الشيوعية المزعومين مستخدماً الحرس الأحمر للقضاء على الأمور الأربعة القديمة ( العادات . الأفكار.الثقافة.العرف) و أصبح الكتاب الاحمر حالة رمزية للكتاب الأوحد الذي يكفي لتعيش أيها المواطن البائس . لقد تفوق أخيراً على ستالين و فاقَهُ قتلاً و تشريداً ، و انفصل عن الإتحاد السوفييتي ، و صافح الأمريكيين ، و حارب فييتنام حليف الأمس ، و دعم بول بوت مجرم الخمير الحمر .
عصافير الدوري التي قضى عليها لم تكن بلا خطيةٍ إذن أو كارما ، فقد ادعى العلماء الصينيون أن العصفور الواحد يأكل من الحبوب 4.5 كيلوغرام سنوياً ، فقرر المبجل ماو أن يقوم الشعب بالقضاء على عصافير الدوري باستخدام أيما وسيلة مناسبة ، و استقدم الشعب إلى الأرياف يطبلون و يلوحون بالأعلام و يستخدمون البنادق لصيدها فقتل الملايين منها ، أراد أن يغير التاريخ فغزت الحشرات و الجراد البلاد و عمت المجاعة بعد أن أفنت الآفات المحصول لثلاث سنوات خلون بعد مقتل عصافير الدوري حتى اضطر لاستقدامها من الإتحاد السوفييتي ، لقد نسي ماو أن الذي تأكله عصافير الدوري من الحشرات أهم بكثير من بعض الحبوب التي تسرقها هذه الطيور الرقيقة . مات ما يقدر بين 15 مليون إلى 45 مليون إنسان ، و خلت الصين من صوت العصافير .
خرجت من سديم الإنترنت المدوي ، قمت إلى كيس الخبز ، أخذت رغيفاً صغيراً و مزقته على عتبة النافذة ، شاهدت العصافير تتقافز عصابيةً كما عهدتها . أردت أن أمد يدي إليها فهربت مسرعة تصفق بأجنحتها ، لا تهوى الأسر و لا تعيش فيه ، تزقزق من بعيد فاترك لها النافذة ، أحب أن أستمع لصوتها صباحاً .
ملاحظة: قام الرفيق ماو باستبدال الدوري ببق السرير عام 1960 بعد الفشل الذريع ، و في 1998 قامت حملة لانعاش القضاء على الآفات الأربعة و كان الصرصور المنزلي مكان الدوري في هذه الحملة كما في الصور الملحقة . (الصور و تواريخها أقدم من بداية الحملة كما أن 1960 شهد تغيير شعار الحملة باستبدال الدوري من الصور )
وقفت اتفرج على النافذة بعد أن وضعت بعض فتات الخبز هناك ، رايت العصافير العصابية الصغيرة تتنقل بسرعة بين الحمامتين ، تهرب بأكبر قطعة ممكنة ، انتابني شعورٌ جميلٌ بالسعادة مع انتشار الزقزقة بينها ، و تيقنت أن الصباح قد حضر ، فلا صباح يمرق و صوت العصافير مفقود .
مددت ساقي و فتحت التلفاز و تابعت برنامجاً عن السيارات ، يتحدث السائق الإنجليزي ببرودته المعهودة عن وصول قافلة السيارات التي يرأسها إلى الصين ، و يشتكي من فقدان صوت العصافير صباحاً ، يبدو أن الصينيين أكلوا كل شيءٍ هناك في البر و الجو و الماء ، هكذا حدثت نفسي ضاحكاً و أنا أتذكر وجبات الطعام المعدة من أرجل الدببة ، إلا أن الأمر يستحق القراءة ، ربما لم يكن لديهم عصفور دوري أصلاً ، ربما لم أتجاوز عتبة الأفكار المسبقة عن شعبٍ عريق الحضارة مثل الصينيين . أمسكت جهازي المحمول و بحثت .
الصين التي نهضت بعد ثورة 1949 على يد ثوارٍ مثل ماوتسي تونغ شهدت عدة حملات تطهير و كتاباً أخضر، آسف ... كتاباً أحمر ، اختلطت الأمور مع تكاثر الأنظمة الشمولية في راسي العربي .
لم يفهم الصينيون درس لينين الذي قال عام 1918 قبل الحرب مع الجيش الأبيض في استشرافٍ لأهمية القضاء على الآفات المتوطنة كالقمل : ("الكارثة محدقة"، "الجماهير الجائعة منهكة، وهذه المجاعة تبلغ أحياناً درجة تفوق قدرة البشر." "ثمة.. وباء (جديد) ينهال علينا: القمل، التيفوس الطفحي الذي يبيد قواتنا... (((إما سيتغلب القمل على البلشفية أو ستنتصر البلشفية على القمل.)))" "الوضع مريع") .
فقد أراد ماوتسي سلطة مثل جاره في الإتحاد السوفييتي (ستالين) ، أرادها دولة بلا تروتسكيين بلا ثوار ، أراد أن يقوم بمجاعة عظيمة و تطهير عظيم ( المجاعة السوفياتية الهولودومر 1932-1934 و حملة التطهير الأعظم أو الإرهاب الأعظم 1936-1938 كلها من مجموع البركات الستالينية الذي تلته حملات تطهير عرقية قبل و بعد و خلال الحرب العالمية الثانية ).
زج الحزب الشيوعي بقيادة ماوتسي تونغ بالصين في حرب الكوريتين (1950-1953) ، خلال ذلك بدأ بأول حملاته التطهيرية في 1950 ضد المناوئين للثورة بعد أن قام بتحويل الميليشيات التي قادت حرب العصابات ضد الوطنيين الصينيين و الكومينتانج (حرب اهلية) للتحرر و الاندماج في الدولة تحت قيادة الحزب الشيوعي . كانت حملة (تطهير ضد مناوئي الثورة 1950 ) تبعتها حملتان ، الثانية عام 1951 استهدفت منشوريا ( الحملة ضد الثلاثة .الفساد.البيروقراطية.القمامة) و الحملة الثالثة عام 1952ضد الأغنياء (الحملة ضد الخمسة .الرشوة.سرقة ممتلكات الدولة.التهرب من الضرائب.الخداع في العقود مع الدولة.سرقة أسرار الدولة الإقتصادية).
هذه الحملات مع إصدار قوانين الإصلاح الزراعي و إعادة توزيع الاراضي و تقنين الزواج ، انتهت بحملة (المائة وردة) عام 1957 التي سمحت للشعب أن ينتقد النظام الشيوعي الصيني ، و عندما مست ماوتسي تونغ تم إيقافها . و برغم الأسماء الخلابة و المناشير الجذابة للمواطنين ، إلا أن ماوتسي تونغ استطاع أن يقضي على معارضيه أينما كانوا ليكون القائد الأوحد الضرورة من خلال هذه الحملات المبهمة .
هل اكتفى ماو بذلك ؟ طبعاً لا ، لم يحصل بعد على المجاعة و لا التطهير اللازمين ليكون في مستوى القائد الفذ ستالين ، بل أراد أن يتجاوزه و يتجاوز الولايات المتحدة و بريطانيا معتمداً على اقتصادٍ زراعي متهالك ( و قد كان شعار الحملة كما سترى و ترين في الصور المرفقة تجاوز أمريكا و بريطانيا اقتصادياً باستخدام آليات الإشتراكية الزراعية Agrarian Socialism ) .
بدأت حملة القفزة العظيمة للأمام ( 1958-1961 ) متضمنة حملة القضاء على الآفات الأربعة( 1958-1962 )و الآفات الأربعة هذه هي الذباب و الناموس و الجرذان و عصفور الدوري ،و باتت تعرف بحملة القضاء على عصفور الدوري لأنها لم تفلح في شيءٍ سوى القضاء على هذه الكائنات الرقيقة .
بالتأكيد لم يكن ماو قد نسي خلال الحملة و قبلها أن يقوم بتطهير البلاد من اليمينيين (1957-1959) ، فبعد حملة المائة وردة اكتشف أن البلد مليئة باليمينيين و هي فرصة اخرى لقتل المزيد من معارضيه . و حتى بعد فشل حملة القفزة العظمى للأمام فقد تابع ماو تطهير البلاد بحملته الثقافية المعروفة 1966-1976 لتنقية الصين من أعداء الشيوعية المزعومين مستخدماً الحرس الأحمر للقضاء على الأمور الأربعة القديمة ( العادات . الأفكار.الثقافة.العرف) و أصبح الكتاب الاحمر حالة رمزية للكتاب الأوحد الذي يكفي لتعيش أيها المواطن البائس . لقد تفوق أخيراً على ستالين و فاقَهُ قتلاً و تشريداً ، و انفصل عن الإتحاد السوفييتي ، و صافح الأمريكيين ، و حارب فييتنام حليف الأمس ، و دعم بول بوت مجرم الخمير الحمر .
عصافير الدوري التي قضى عليها لم تكن بلا خطيةٍ إذن أو كارما ، فقد ادعى العلماء الصينيون أن العصفور الواحد يأكل من الحبوب 4.5 كيلوغرام سنوياً ، فقرر المبجل ماو أن يقوم الشعب بالقضاء على عصافير الدوري باستخدام أيما وسيلة مناسبة ، و استقدم الشعب إلى الأرياف يطبلون و يلوحون بالأعلام و يستخدمون البنادق لصيدها فقتل الملايين منها ، أراد أن يغير التاريخ فغزت الحشرات و الجراد البلاد و عمت المجاعة بعد أن أفنت الآفات المحصول لثلاث سنوات خلون بعد مقتل عصافير الدوري حتى اضطر لاستقدامها من الإتحاد السوفييتي ، لقد نسي ماو أن الذي تأكله عصافير الدوري من الحشرات أهم بكثير من بعض الحبوب التي تسرقها هذه الطيور الرقيقة . مات ما يقدر بين 15 مليون إلى 45 مليون إنسان ، و خلت الصين من صوت العصافير .
خرجت من سديم الإنترنت المدوي ، قمت إلى كيس الخبز ، أخذت رغيفاً صغيراً و مزقته على عتبة النافذة ، شاهدت العصافير تتقافز عصابيةً كما عهدتها . أردت أن أمد يدي إليها فهربت مسرعة تصفق بأجنحتها ، لا تهوى الأسر و لا تعيش فيه ، تزقزق من بعيد فاترك لها النافذة ، أحب أن أستمع لصوتها صباحاً .
ملاحظة: قام الرفيق ماو باستبدال الدوري ببق السرير عام 1960 بعد الفشل الذريع ، و في 1998 قامت حملة لانعاش القضاء على الآفات الأربعة و كان الصرصور المنزلي مكان الدوري في هذه الحملة كما في الصور الملحقة . (الصور و تواريخها أقدم من بداية الحملة كما أن 1960 شهد تغيير شعار الحملة باستبدال الدوري من الصور )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق