كنت أراقب بأسىً على شاشة التلفاز ، غزالاً صغيراً يركض على الأرضية الخضراء المترامية للسافانا الإفريقية ، ترقبه عينا الصياد و ناظور بندقية القنص الهادئة ، "بووووم" ، و يخر ُّ الغزال أرضاً من أول طلقة . ( إنه قناصٌ ماهر ) هكذا كنت أدردم بيني و بين نفسي . هل كانت البندقية من النوع الجيد ؟ أم أن المسافة إلى الهدف ليست ببعيدة ؟
نفس المنظر يتكرّر في فيلم ( القناص الامريكي American Sniper ( من إنتاج 2014 ، حيث ينطلق الصغير راكضاً نحو غزالٍ اصطاده للتوّ برفقة أبيه ، الصغير الذي يكبر ليصير واحداً من أفضل قناصي الجيش الأمريكي في التاريخ ( كريس كايل Chris Kyle ) ب 255 إصابة منها 160 مؤكدة من قبل وزراة الدفاع الأمريكية - خلال أربع مهماتٍ له في العراق . الفيلم يتحدث بما يشبه النفس القصصي الأسطوري عن معجزة القتل النظيف ، لا يناقش الإرتباك الملازم للقرار بل يؤيد ما راح إليه القناص في كل خطواته كبطلٍ أمريكي نموذجي ، محافظ و رجل عائلة حقيقي ، مقابل العربي الهمجي الغدار ، الذي يستغل أيّ فرصة لقتل هذا المحارب النبيل القادم من خلف البحار ليثأر لقتلى 11/9 ، لقد أثار هذا الفيلم موجة من الإنتقاد لهذا التمجيد ل(الأبيض و الأسود) القادم بالوحي ، الذي لا تخطىء قراراته ، و لا يجانبه الصواب ، هرقل الجديد ، نصف إله يتحدى الزمن . أهذا هو البطل العسكري الحقيقي ؟ أهو القناص كما يجب أن يكون ؟ بطل لا ينازعه أحدٌ في اتخاذ قراره بثوانٍ معدودة ، بين إيقاف النفس و قياس المسافة ضغطة على الزناد ، "بووووم" و تنطلق الرصاصة وراء الهدف ، تسير كما وجهتها السبطانة الطويلة لبندقية القنص ، هل يقف وراء الناظور قاتل أم بطل ؟ مجرم أم منقذ ؟ كاذب أم صادق ؟ . إنّ من يتلقى الرصاصة ؛ يحمل عبء الذنب المفروض و لون الزي المناسب ؟ هل أمام الناظور غزال بريء أم ذئب يقتات على البشر ؟ . أسئلةٌ لا تهم مخرج بروباغندا من هذا الصنف .
في فيلم ( أعداء على الأبواب Enemy at the Gates ) من إنتاج 2001 ، المنحول عن رواية بذات الإسم تتحدث عن حصار ستالينغراد (فولغوغراد حالياً ) في العام 1942 ، تروي القصة بطولة القناص الروسي الشهير فاسيلي زاييستيف ، الذي ينسب إليه 242 قتلاً منهم 11 قناصاً في الحرب العالمية الثانية ، الفيلم أيضاً يأخذ في القصِّ من جانبٍ واحدٍ مرة أخرى ، ليس في القتل شكٌ أو تردد ، ليس في البطولة أمرٌ آخر ، القناص يقف على مسافةٍ واضحة من الحق ، و يطلق رصاصته . لا يخلو الفيلم من تمرير نقدٍ للسوفييت و نظامهم و دعايتهم ، لكن لا شيء يعلو على قتل الألمان ، لا خلاف أن النازيين كانوا حالةً لا تتكرر كثيراً في التاريخ ، لكن ستالين لا يتكرر أيضاً . مرةً أخرى يفتقد الفيلم لأيّ حديث عن حقيقة القتل و مغزاه ، فالإنتصار في الحرب و كسر الحصار أهم محورٍ في فيلمٍ يحاول أن يمجد بطولة القناص المحترف الذي يقتل بأعصاب من فولاذ .
النَفَس التوراتي النبوئي استمرارٌ لمقولة ( نثق بالرب In GOD we trust) ، المطبوعة على الدولار الامريكي منذ العام 1956 أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بأحد عشر عاماً ، و هذا ما يؤكده فيلم ( إنقاذ الجندي ريان Saving Private Ryan ) من إنتاج 1998 ، و إن كان الفيلم بعمومه يتحدث بعمق عن الحرب و الحياة و فظائع الموت و التشريد ، إلا أن القناص مرةً أخرى لا ينفك يردد آيات التوراة في استلهامه لصراع الخير و الشر ، و رغم أن القناص هنا من صنع الخيال ، إلّا أنه مرةً أخرى ينفرد بين زملائه بحالة الإلهام هذه و لربما لنفس السبب كان مصيره الموت ، فهو هنا لا يقتل فقط لأجل القتل هو ينقذ البشرية مقدماً التضحية القربانية الجسدية لرضى الرب ، لقد نجح سبيلبيرغ بإضفاء شيءٍ من الحقيقة على القناص ، شيءٍ من البشرية .
المخرج الغريب الأطوار ( كوينتن تارينتينو Quentin Tarantino ) قام بكتابة و إخراج فيلمه الشهير ( أوغادٌ مجهولون Inglorious Bastards ) عن الحرب العالمية الثانية ، مقدماً قصة سرية قتل مكونة من عدد من الجنود اليهود و هم ينفذون مهماتٍ خاصة خلف الحدود في ألمانيا و فرنسا ، و في خضم مجموعةٍ من المواقف المضحكة المبكية يظهر البطل الالماني النازي القناص فريدريك زولر - و هو كما قصة الفيلم محض خيال ، هذا القناص الذي قتل 250 جندياً في معركةٍ واحدة خلال عدة أيام ، جنديٌ ذكيُ يتحدث الفرنسية و الألمانية ، و يقنع جوبلز وزير الإعلام الألماني بعرض فيلمٍ دعائيٍ عن بطولته في القنص في دار سينما تمتلكها فتاة يعجب بها - يتبين لاحقاً أنها شوشانا دريفوس اليهودية الفرنسية التي هربت من إبادة عائلتها في بداية الفيلم . ما يهمني هنا مرةً أخرى أن القناص رجلٌ متعدد المواهب ، حادٌ كنصلٍ سكين ، باردٌ كالفولاذ ، و هاديء الأعصاب كما ينبغي لشخصٍ عظيم .
في فنلندا الهادئة القابعة في عمق الشمال البارد يحتفظ الفناء الخلفي لكنيسة روكولاتي بجثمان أشهر قناصٍ في تاريخ الحرب الحديثة (سیمو هاوها Simo Häyhä ) أو "الموت الأبيض" المتوفى عام 2002 ، هذا الجندي الفنلندي و ببندقية قنصٍ بسيطة بدون منظار ، تمكن من قتل 505 جندي روسي في حرب الشتاء بين روسيا و فنلندا 1939-1940 ، و 200 إصابة أخرى غير مؤكدة . كل هذا في قرابة المائة يوم . لقد كان يتخفى بلباسٍ و قناعٍ أبيضين ، و لا يستخدم المنظار خوف أن يكشفه لمعان الزجاج لجنود الأعداء ، كان يضع شيئاً من الثلج في فمه حتى لا يشاهد الاعداء البخار المتكثف من انفاسه ، و يضغط الثلج أمام البندقية حتى لا يتناثر بعد إطلاق النار . سيمو كان و لا يزال صاحب الرقم القياسي ، لم يكن نصف إله ، لم يكن يحمل نبوءات التوراة و لا دعايات الحزب و لا التفوق العرقي النازي و لا رتب النبلاء ، ابن فلاحٍ بسيط ، لكنه أعظم قناص ، لم يحظ بفرصة الإنتشار عبر السينما لأنه لا فائدة إعلامية ترتجى من ذلك . فنلندا التي أذلت السوفييت ليست دولة عظمى و لا قوة حربية تتباهى بأسلحتها رغم النجاح في صد العدو .
سيمو البسيط أجاب عن سؤالين هامين في مقابلةٍ معه في العام 1998 ؛ السؤال الأول كان ( كيف أصبحت بهذه البراعة؟ ) ، فماذا تتوقع أن تكون الإجابة ؟ " لقد كنت ملهماً "أو "إنها موهبة عظيمة حباني بها الله" ؟ جواب من كلمةٍ واحدة ( التدريب ) نعم ، التدريب لا أكثر و لا أقل . أما السؤال الثاني ( هل تندم على قتل هذا العدد من البشر ؟ ) و هو السؤال المتوقع دوماً ، السؤال الذي يدمغ كل حرب ، بعد انتهائها خصوصاً عندما يصفو التفكير ، و تتضح الرؤى ، لا بد أن يكون لديه إجابةٌ وطنيةٌ "لأجل مجد فنلندا" أو "دفاعاً عن الحرية" أو "كلنا فداء القائد المبجل حفظه الله" . مخيبٌ للآمال كان سيمو لأنه لم ير الشر خلف الأقنعة الوهمية ، لقد رأى موت الغزال لأنه كان صياداً ، الموت له هدف ، ليس قتلاً بقدر ما هي وظيفة الجندي ، لم يكن ملهماً و لم يتنظر الوحي ، (( لقد فعلت ما طُلِب مني ، بأفضل ما استطعت )) ، إنها وظيفة أوجدتها الحرب لا أكثر و لا أقل ، و انتهت مع انتهائها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق