ألسنا كلنا
عبيداً؟
رواية شوق الدرويش لحمور زيادة
بين الشوق و الشوك عبودية عُمْرٍ
يتمدد متثائباً بلظى الحنين و الحب ، هكذا يتفاعل حمور زيادة في روايته الثانية (
شوق الدرويش) ، مع عمق تاريخ السودان الضارب في السواد و الصوفية .
و قبل أن نغوص في بحار حمور زيادة التاريخية ، علينا أن نتحدث قليلاً عنه و
عن التاريخ المصاحب للرواية ؛ حمور صحافي و مدون و قاص و روائي سوداني من مواليد
أم درمان ( عاصمة المهدية و نهاية خلافتها حيث تدور أغلب أحداث الرواية ) تعرض
للانتقاد و التحقيق في عام 2009 في السودان فترك البلاد حاطاً رحاله في مدينة
القاهرة ، و كان قد صدر له قبل هذه الرواية مجموعتان قصصيتان (سيرة أم درمانية –
2008) و ( النوم عند قدمي جبل – 2014) و رواية ( الكونج-2010 ) . فهو إذن ليس
غريباً عن أحداث الرواية مكاناً و لا صلةً ، فالرواية التي عمل عليها منذ 2011
امتصت رحيق القلب و لا بد، و حملت صوت الجدة التي أودعته سر الحكايات القديمة .
و لكن رواية كالتي بين يدي الآن من إصدار (دار العين للنشر) في طبعتها
الثالثة لابد أن تستفزك لقراءة تاريخ السودان ، أو إعادة قراءته في ظل أحداث اليوم
في العالم العربي . الرواية تقع في 460 صفحة من القطع المتوسط ، الغلاف الأمامي
يحمل صورة للأب جوزيف اورفالدر النمساوي و راهبتين و خادمتهم عديلة في أزياء
سودانية شعبية و الصورة من كتابه ( عشر سنواتٍ في الأسر في معسكر المهدي ) ، و على
الغلاف نفسه تذييل تعرف منه أن الرواية فازت بجائزة نجيب محفوظ للأدب للعام 2014 و أنها مرشحة للقائمة الطويلة لجائزة البوكر
العربية للعام 2015 ( و رشحت للقائمة القصيرة لاحقاً) . الطباعة رديئة نوعاً ما و هناك صفحاتٌ باهتة ، الأسماء البارزة في الرواية
للشخصيات حادت عن موقعها ، هناك أخطاء مطبعية عديدة و فقرٌ بتشكيل النص الصعب
المعاني ، كان يجب تداركه مع تكرار الطبعات ، قص أطراف الرواية بالمجمل مهمل حتى
أنك تحسبها "نسخةً مضروبة" أو مقلدة . يقدم حمور الرواية بكلمتين ( إلى
التي ...) و بجملة لابن عربي ( كل شوقٍ يسكن باللقاء ، لا يعول عليه) ، و الختام
أيضاً لابن عربي (شوقٌ بتحصيل الوصال يزول ، و الإشتياق مع الوصال يكون ، إن
التخيل للفراق يديمه عند اللقاء . فربة مغبون من قال هون صعبة ، قلنا له ما كل
صعبٍ في الوجود يهون هو صفات العشق لا من غيره . و العشق داءٌ في القلوب دفين .)-
كما اختار حمور أن يَصُفّ أبيات الشعر بهذه الطريقة . أما الغلاف الخلفي للرواية فهو مقطع من حديث
الحسن الجريفاوي لزوجته و حبيبته فاطمة :
"ناداني الله يا فاطمة.
أما ترين ما أصاب الدين من بلاء؟
تغير الزمان. ملئت الارض جوراً.
الترك، الكفار ، بدلوا دين الله . أذلوا العباد.
ألا أستجيب لداعي الله و رسوله إذا
دعاني لما يحييني ؟
سنجاهد في سبيل الله . في شأن
الله.
نغزو الخرطوم . نفتح مكة . نحكم
مصر .
ننشر نور الله في الأرض بعد
إظلامها .
وعدُ اللهِ سيدنا المهدي عليه
السلام . و ما كان الله مخلفاً وعده مهديه يا فاطمة.
واجبة علينا الهجرة. واجب علينا
نصرة الله.
عجلت إليك ربي لترضى. عجلت إليك
ربي لترضى.
عجلت إليك .. و تركت فاطمة ورائي
."
الإنغماس في سحر السودان ، حالة لا تخلو من
التصوف الذي يحيط بكل ما في هذه البلاد البعيدة في عمق أفريقيا ، ولكننا لا بد
نتساءل قبل أن نقرأ الرواية عن السودان الحالي ، فإن كان اليونان نسبوا الأحباش
إلى حرقة وجوههم ، فقد سمى العرب البلاد باسم أصحاب البشرة السوداء ، فبلاد
السودان ( مقابل البيضان . كما في كتاب الجاحظ فخر السودان على البيضان) ، هذه
البلاد التي تحيطها بلاد عميقة التاريخ كالحبشة و مصر و اليمن أصبحت بعد انتصار محمد
علي على مملكة الفونج الزرقاء في عام 1821 تابعة لبلاد مصر رسمياً و بدأت ملامحها
تتشكل في حدودها الحالية .
حكم محمد علي و خلفه (لاحقاً مع
الإنجليز) و نيابة عن الترك شعوب السودان باسم الدين الإسلامي ، و اضطهدوا أهل
البلاد و كلفوهم ما لا يستطيعون ، في عصر غلب عليه تحرر العبيد و الشعوب . ففي مصر
يطالب عرابي باسم الشعب ( وباسم الشعب حدثت مذبحة الإسكندرية 1882 التي قتل فيها
50 أجنبياً على أثر مشاجرة بين أجنبي و مصري - لتبرر الإحتلال الإنجليزي )، و في أوروبا
يطالب القوميون و الاشتراكيون باسم الشعب . أما حركات الإصلاح الديني فمحمد عبده و
الأفغاني في مصر أيضاً ، و مملكة صوكوتو الإسلامية غرب السودان ، و السنوسي في
الجزائر و ليبيا ، و عبر البحر الوهابيون في شبه الجزيرة العربية ، كلٌ يطالب بإصلاح الدين على طريقته . كل هذا يتزامن مع التغيرات في السودان
، إذن كان للسودانيين الذين تطلعوا للحرية
و إصلاح الدين أمل كبير في محمد أحمد المهدي (1843-1885) ابن جلدتهم ، أملٌ كبير مشوب بالإيمان ، إيمانهم بأن الدنيا ستخضع يوماً للعدل و أن
الظلم سيموت ، و يدفنه المهدي في أرض غير هذه الأرض، و كان ما أرادوا ، و نجح
المهدي في فتح الخرطوم 1885 منتصراً على هيكس و غوردون الإنجليزيين ، و نقل
العاصمة إلى أم درمان ليخرج من دنس القديم إلى طهر الجديد . و توفي في نفس العام و
دفن في أم درمان- و له مقام هناك - ليخلفه عبد الله التعايشي ود تورشين ، و في
عهده تقع أغلب أحداث الرواية .
حكم التعايشي البلاد و كان سجن
الساير و العبودية و الأسرى الأجانب و السبي و الحروب التي لا تتوقف ، مظاهر على دولة لا دولة فيها فعمت المجاعة (
مجاعة سنة ستة 1306هجرية 1888ميلادية ) و
استمرت هذه الخلافة من 1885 إلى 1899، فيها حاول التعايشي أن يحتل الحبشة فنجح في
قتل امبراطورها يوحنا الرابع و توقف فقد تقدم الإيطاليون إلى الحبشة ، و خسر في
معركة توشكي مع مصر و قتل قائده عبد الرحمن النجومي 1889، و بعث برسائل للملوك
يدعوهم إلى الإيمان بالمهدية أهمها رسالة بعثها لملكة انجلترا ، يدعون أنه قال
فيها أنه سيزوجها لقائده يونس ود الدكيم ، و حصل في عهده قبل دخول الإنجليز مذابح
للعصاة أشهرها ( كتلة الجعليين ) التي حصلت في المتمة عام 1897على يد محمود ود أحمد . و انتهى حكم المهدية
عام 1899 بانتصار الانجليز في معركة كرري (أو أم درمان) التي عرف السودانيون فيها
أن الحربة و الفرس و الشجاعة لا تضاهي مدفع المكسيم الإنجليزي ( كما ذكر ذلك
ونستون تشيرتشل في كتابه حرب النهر ) و قتل الخليفة في معركة ام دبيكرات . لتنتهي
الحقبة المهدية و يبدأ الحكم الثنائي الإنجليزي المصري حتى الإستقلال عام 1956 و
التقسيم الأخير إلى السودان و جنوب السودان 2011 .
و الأحداث التاريخية التي ذكرتها أشار إليها
تقريباً جميعها في الرواية ، فكان لا بد من ذكرها بتسلسلها الزمني ، لأن الروائي
اعتمد تقنيتي الفلاش باك ، و التشظي الزمني ، و أضاف للنص الروائي تناصاً من
خطابات المهدي الحقيقية ، و أبياتاً من الشعر ، و آياتٍ من القرآن الكريم ، و
الكتاب المقدس ، و الشعر الشعبي ، عدا عن خطابات ثيودورا ( حواء) ، و
الحوار الداخلي الذي أجراه البطلان الرئيسي بخيت منديل ، و المساعد حسن الجريفاوي ، حتى يكاد النص يتفلت من بين يديك و أنت
تقرأ مشحوناً بالمشاعر، و خيط ذاكرتك يذوب ، لتلاحق الأسماء و الأحداث بين الواقع
التاريخي و المخيال .
الرواية تتمحور حول قصة حبٍ بين بخيت ود
منديل ؛ و هو عبد أسود حالم بالحرية من جبال غرب السودان، سُرِق و بيع في سوق
النخاسة ليتناوب على اقتنائه اوروبي و تركي ، و ينتهي به الحال حراً ليحارب في جيش
المهدي ، و يؤسر و يباع عبداً بعد معركة توشكي فيتركه سيده بعد فترة حراً طليقاً ، فيرجع حراً إلى أم درمان عاصمة الخلافة ، و هناك
يقع في حب جارية بيضاء من سبايا المهدية من الحملة التبشيرية اليونانية ، اسمها ثيودورا أو حواء كما سماها مالكها
لاحقاً ، و تقتل ثيودورا خلال محاولتها الهروب من السودان ، و يقوم بخيت بحملة
طويلة خلال الرحلة بعد 7 سنوات من السجن في الساير، باللاقتصاص من الأشخاص الستة
الذين تسببوا في قتلها ، فيصطدم قدره بالحسن الجريفاوي الصوفي ، الذي ترك حبه و زوجته
فاطمة ليلتحق بجيش المهدي ، و ينتهي به الأمر في خدمة التاجر الإنتهازي إبراهيم ود الشواك . و ابراهيم أحد المتسببين في
مقتل ثيودورا ، و يقتله بخيت ثأراً لها لكن الحسن يلحق به ، و يسمع قصته التي يقف
مصيرها عند نهاية مفتوحة قبل الخرطوم بقليل فلا قائمة بخيت انتهت ( فقد بقي يونس
ود جابر الذي خدع ثيودورا ) و لا الحسن عاد لفاطمة ؛ التي يبقى مصيرها مجهولاً بعد أن قتل
المهدية أباها الذي لم يقبل الإيمان بالخليفة ، إن الوقوف عند الخرطوم مفتوح فلم
يسلمه الحسن للقتل و لا هو تركه و لكن بخيت منديل العاشق يريد لقاء محبوبته ثيودورا
.
لم أقرا رواية عربية بهذه الجودة و التعقيد التقني منذ فترة ، و لا بهذه
اللغة الشعرية الجميلة ، هناك انتقاء لجمل كل شخصية تناسب عصرها و مقامها و تعليمها ، حتى الحب لم
يكن حباً . فلم تكن الفتاة البيضاء المسيحية ، على قناعة تامة بأن عبداً أسود يعرف
الحب ، أو يستحق أن تحبه ، فهي طوال فترة وجودها في السودان كانت تراها بلاد الهمج
السود ، فكيف يعرفون الحب ؟!
إن مستويات الوعي بالشخوص في الرواية عالٍ، فكل شخصيةٍ تبحث في ثورتها على شيءٍ ما ينقصها ،
لكن الشخصيات كلاسيكية في مساندة الرواية التاريخية ، فهناك الإنتهازي و المخاتل و
المقاتل و المحب و الصوفي و المجرم و الديكتاتور الأوحد ، لكن أليست اللوحة السودانية انعكاساً لوعينا
العربي ؟ ألم نكن نحلم بالحرية دوماً ؟ أن نكون نحن تحت قيادة الدين الذي سيملأ
الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً و ظلماً ؟ لكن العدل ، ما هو العدل ؟ إن لم يكن الإنسان عدلاً كيف تكون حراً و أنت
عبد في كل خطوة .
عبد للعشق و المعشوق ، عبد للرغبات
، عبد للسلطة ، و هل من قوة تحررنا إلا إخلاص العبودية للخالق ؟ و لكن العبودية
تمر من خلال المهدي و الخليفة الذي طاعته واجبة بلا نقاش ، الذي لم ينقصه الإيمان ،
لم تهزمه شجاعة الإنجليز ، بل هزمته مدافعهم .
"- ما من شيءٍ أحب إليّ من
الشهادة
- اصبر يا ولدي فلعلك تمشي تحت
راية الله ثم تحدث أمراً
- ما كنت لأحدث أمراً فيه غضب ربي
- احذر الإيمان يا ولدي فمنه ما
يهلك كالكفر "
أمواج الذنوب تثقل الحسن الجريفاوي
، تزرع في قلبه الشك تحمل إليه ريح الذنب كلما تذكر الجوعى و القتلى ، لم يعد
لمحبوبته فاطمة ، لم يعرف أحية أم ميتة . أصبح هائماً في عالم المادة ، ذاب في
السلطة ، و ابتعد عن نقاء التصوف و لم يعد إليه .
أشفق على بخيت الذي أضناه الشوق ، لم يجد في
الحرية و لا في الانتقام حرية أخرى من العشق ، لم يحسنا العبودية .
"قال بخيت:
-يا حاج انا لا أطلب إلا الراحة
قال له الحاج تاج الدين المغربي (
الذي يظن أنه نبي الله عيسى )
- يا شر دواب الأرض أنت في راحة
- أنا أسير أغلالي يا حاج!!
- من يخبر الأحمق أن العبد لا يبلغ
الراحة حتى يحقق العبودية ؟ "
أين الحرية و كلنا عبيد لم نحسن
العبودية ، على طول الرواية نركض وراء الصفحات نستكشف الجوع و الجهل و المرض و
الجنس و الخوف ، نحن عبيد التاريخ ، نحن عبيد تاريخنا الذي يتكرر مع كل مهدي ، أصبح
خيط الدم جبالاً زكمت أنف السماء ، انقطعت الصلة ، فلا عشق يغسل الذنب و لا وصال
يجدد الوجد ، صلة أمة السماء مع السماء انقطعت حتى أصبحت حريتنا بيد الأجنبي نهرب
إليه منا .
ألسنا كلنا عبيداً ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق