امتهان الجسد و امتهانه
عباد يحيى في خطوته الثانية
رواية القسم ١٤
في عنوان مقالة في مجلة السياسة الخارجية ( Foreign Policy) الأمريكية بتاريخ التاسع عشر من يناير ٢٠١٤ لعزيزة أحمد تصف الدعارة ب " أقدم مهنة في العالم " . أتذكر بوضوح ما قاله أحد المراسلين عن بغداد بعد الإحتلال الأمريكي ( لقد عادت أقدم مهنةٍ في العالم إلى شوارع بغداد ) .
بعد أن أثار الروائي الفلسطيني ، و الصحفي و الباحث الإجتماعي (عباد يحيى ) شهية كادت تخبو لنصٍ فلسطيني روائي أوشك أن يندثر بين النصوص الإبداعية الشعرية و الذاتية الباحثة عن هوية بعثر المنفى أصحابها، يتقدم اليوم بجرأة نحو نصّ جديد يعنونه تحت مسمى ( القسم ١٤) ، يلج من خلاله عالم الرواية مرة أخرى .
العمل الصادر عن المركز الثقافي العربي عام ٢٠١٤ يخوض بين دفتي ١٦٠ صفحة من القطع الصغير في علاقة الجيوش بالجنس ؛ كما يشي بذلك غلاف الكتاب ، الذي يصوّر بسطاراً عسكرياً و حذاءً نسائياً ذا كعبٍ عالٍ فاقع الحمرة على مدخل ما يبدو أنه غرفة يغمر ضوؤها زوجي النعال المنزوعة خارج الغرفة بعناية ، و إن كان البسطار يعلوه شيءٌ أقرب للدم أو الطين ، لكن الغلاف الكرتوني لا يشي بالمعنى وراء الصورة ، و إن كان يمهد لها بصراحة يلفها الضباب .
يصدّر الكاتب لعمله بعبارة مأخوذة من عملٍ روائي للأديب الكبير ماريو بارخاس يوسا ( إنني بحاجة إلى من يوجهون لي الأوامر ، فمن دونهم لا أدري ماذا علي أن أفعل ، و ينهار العالم من حولي . ) لبانتاليون بانتوخا بطل رواية (بانتاليون و الزائرات ) بحسب ترجمة القدير صالح علماني و الصادرة عام ١٩٧٣(الترجمة صدرت عن دار المدى في العام ٢٠٠٩) . في إشارة و إحالة واضحة إلى الرواية التي تخوض في ذات الأمر و لكن مع جنود الجيش البيروفي او البيروي و حملة الترفيه الجنسي المنظم . و لا بد أن هذه الإشارة كافية لمن قرأ الرواية الأخرى لتتضح له خطة الرواية التي سيقدم على قراءتها و ليعلم أن عباد لم يأت بدعاً في الحديث عن المؤسسة العسكرية ، و إن كان الإنتقاء للعبارة يجمل في جواب المتسائل عن طبيعة العلاقة العسكرية بالاختيار ، فلا بد أن تصفق لعباد بقوة فقد أحسن التمهيد .
في الرواية تقديم من سطر أو إهداء غريب ، يتضح لاحقاً في آخر الرواية ما هيته ( إلى أسباب أربع ساعات في المطار إياه )، و هو أن الرواية في الأصل حديث أدلى به العقيد ( بطل الرواية ) ، إلى الراوي الذي فيما يبدو أنه صحفي أو باحث اجتماعي - من الأسلوب التقريري الذي تتبعه الرواية - و الهوامش التي و كما سنعرف لاحقاً، هي ملاحظات العقيد التي كتبها بلهجةٍ عامية قام الراوي بتفصيحها كما ينبغي لكاتب محترف ، بحيث اختفت أي لكنة من النص ، كما اختفت الشخوص و الأمكنة ، فعدا خط الزمان متسلسلاً تقطعه الهوامش ، و باستثناء أرقام الفصول الخمسة عشر ،فهناك فصل أخير هو ( أوّل الأمر) ، فإنها كلها تتبع خطاً زمنياً متسقاً حتى النهاية .
كل فصل من الرواية فيه نص هو ما ينقله الراوي على لسانه عن العقيد ، و فيه هامش يتلوه العقيد ذاته ، وهو ما قام بتنقيحه راوينا من الأوراق التي سلمها له العقيد ، و فيها ملاحظاته على سير العمل في القسم ١٤ و آراؤه فيما يحصل داخل المعسكر ، و اقتراحاته ، و بحثه الذي أجراه على الإنترنت .
من الملاحظ في النص التزامه بحياديه المكان و الشخوص و اللغة ، فباستثناء أثينا و المعسكر و منزل العقيد و منزل الضابط الأمريكي و المطار، لا توجد علامات تعرف من خلالها المكان الذي تقع فيه أحداث الرواية . و أيضاً الشخوص بلا أسماء ، كلها بلا استثناء ، حفاظاً على حياد العمل . و أكثر ما في النص حياداً لغة عباد المتينة التي اعتدناها ، و لكن هنا بلا كلمات عامية بتاتاً بعكس النفس الفلسطيني في كل ما يكتب ، ليس في الرواية كلمات دالة أو إزاحات إلى أي طرفٍ عربي سوى أن هذا الطرف صديقٌ للأمريكيين ، و إنشاء المعسكراعتراف باليد الأمريكية السابقة و رد للمعروف .
العمل هنا عمل أشبه بالبحث الإجتماعي ، و هو يفتقد للنفس الروائي ، فلا لغة وصفية أو شعرية هنا و لا تشويق ، و لا ارتقاء في الإثارة و لا نهاية غير مرتقبة ، هناك جفاف يشبه التقارير الصحافية و أعمال الدراسات الإجتماعية المنشورة . ربما في اللاوعي ، عملت خلفية عباد في علم الإجتماع و الصحافة ، أو محاولته و بقوة أن يترك الرواية بلا ملامح واضحة .
و سوى الإحالة على قضية الجنس و تدريب قواتٍ خاصة خالية من الملامح الشخصية و الفردية ، تتدرب يومياً لفض الإشتباكات بشكل آلي ، تلميحٌ إلى المستقبل الذي ترسمه القوة العظمى العالمية و قطبها الأوحد العالمي الأمريكي ، لقواتٍ ليست سوى قوى أمن تم سلبها من كلِّ مقومات الجيش و العسكرية المشرفة ، و إضاءة على جانب يحتل مقعد الصدارة في قوات العالم العربي التي تخلو كلياً من العنصر النسوي الذي يتعرض للكثير من الضغوط الجنسية في جيوش تلك الدول و انتهاك العرض و التحرش الجنسي ، فيعوض عن ذلك بوسائل ترفيه متعددة قد تصل إلى خدماتٍ جنسية ممنهجة لتقليل التوتر . سوى ذلك كله فالبحث يتركك بلا ملامح محددة ، هناك طرح فضفاض يوازي أعمال الواقعيين .
و بعكس يوسا الذي يضيف لمحة ساخرة إلى روايته ، يضع عباد في نهاية الرواية حالة توثق لشعور الشرقي العسكري ، الذي يحس أنه خان قسمه العسكري بامتهانه الترفيه الجنسي عن الجنود ، حتى تحول جيشه إلى آلة تمارس القتل و الجنس ، و تمتثل للسيد الأمريكي في القيادة المشتركة إلى الحد الذي تبدو فيه هذه المعسكرات تجربة يقوم بها الأمريكيون على أرض في هذا الشرق ، فالعقيد و صنوه المقدم المسؤولان في المعسكر يحاولان الخروج بسجلٍ نظيف من تسهيل ممارسة الرذيلة الممنهجة ، و بكل الوسائل الممكنة خوفاً من الفضيحة . الشرقي هنا يبرز في تناقضه العميق كما العسكري ، تناقض المتلقي السلبي الرافض ، فبينما يسهل عمل "الخدمة" و إنجازها بشكل واجب إلزامي ، يرفض الإنغماس في هذا الأمر ، مستنفذاً كل وسائل الضغط للخروج من القسم ١٤ سليم الشرف و السجل .
اللافت هنا أمر يكرره عباد و يوسا في النصين ؛ الضابط يتفوق في إنجاز عمله و يبرع فيه ، و لديه سجل نظيف حافل بالنجاح يحاول الحفاظ عليه كما ينبغي ، برغم كل الصراع الداخلي .
إن العقيد يعيش كما هو العسكري، و كما ينبغي للنص ( التقرير الذي بين يدينا ). النظام و الانتظام يتخلل ثنايا السياق و يتغلب على السرد ، حتى يخال لك بعد الانتهاء من القراءة أنك تسمع كلمة "نعم سيدي " في كل زوايا رأسك كرجيع الصدى . فإن كان هناك من شيءٍ نجح في نقله فهو رتابة الأمر العسكري و تسلسله بحيث أصبح النص امتثالاً لدواخل العقيد التي اعتادت كتابة التقارير الشهرية إلى القيادة المشتركة .
عباد يحيى في خطوته الثانية
رواية القسم ١٤
في عنوان مقالة في مجلة السياسة الخارجية ( Foreign Policy) الأمريكية بتاريخ التاسع عشر من يناير ٢٠١٤ لعزيزة أحمد تصف الدعارة ب " أقدم مهنة في العالم " . أتذكر بوضوح ما قاله أحد المراسلين عن بغداد بعد الإحتلال الأمريكي ( لقد عادت أقدم مهنةٍ في العالم إلى شوارع بغداد ) .
بعد أن أثار الروائي الفلسطيني ، و الصحفي و الباحث الإجتماعي (عباد يحيى ) شهية كادت تخبو لنصٍ فلسطيني روائي أوشك أن يندثر بين النصوص الإبداعية الشعرية و الذاتية الباحثة عن هوية بعثر المنفى أصحابها، يتقدم اليوم بجرأة نحو نصّ جديد يعنونه تحت مسمى ( القسم ١٤) ، يلج من خلاله عالم الرواية مرة أخرى .
العمل الصادر عن المركز الثقافي العربي عام ٢٠١٤ يخوض بين دفتي ١٦٠ صفحة من القطع الصغير في علاقة الجيوش بالجنس ؛ كما يشي بذلك غلاف الكتاب ، الذي يصوّر بسطاراً عسكرياً و حذاءً نسائياً ذا كعبٍ عالٍ فاقع الحمرة على مدخل ما يبدو أنه غرفة يغمر ضوؤها زوجي النعال المنزوعة خارج الغرفة بعناية ، و إن كان البسطار يعلوه شيءٌ أقرب للدم أو الطين ، لكن الغلاف الكرتوني لا يشي بالمعنى وراء الصورة ، و إن كان يمهد لها بصراحة يلفها الضباب .
يصدّر الكاتب لعمله بعبارة مأخوذة من عملٍ روائي للأديب الكبير ماريو بارخاس يوسا ( إنني بحاجة إلى من يوجهون لي الأوامر ، فمن دونهم لا أدري ماذا علي أن أفعل ، و ينهار العالم من حولي . ) لبانتاليون بانتوخا بطل رواية (بانتاليون و الزائرات ) بحسب ترجمة القدير صالح علماني و الصادرة عام ١٩٧٣(الترجمة صدرت عن دار المدى في العام ٢٠٠٩) . في إشارة و إحالة واضحة إلى الرواية التي تخوض في ذات الأمر و لكن مع جنود الجيش البيروفي او البيروي و حملة الترفيه الجنسي المنظم . و لا بد أن هذه الإشارة كافية لمن قرأ الرواية الأخرى لتتضح له خطة الرواية التي سيقدم على قراءتها و ليعلم أن عباد لم يأت بدعاً في الحديث عن المؤسسة العسكرية ، و إن كان الإنتقاء للعبارة يجمل في جواب المتسائل عن طبيعة العلاقة العسكرية بالاختيار ، فلا بد أن تصفق لعباد بقوة فقد أحسن التمهيد .
في الرواية تقديم من سطر أو إهداء غريب ، يتضح لاحقاً في آخر الرواية ما هيته ( إلى أسباب أربع ساعات في المطار إياه )، و هو أن الرواية في الأصل حديث أدلى به العقيد ( بطل الرواية ) ، إلى الراوي الذي فيما يبدو أنه صحفي أو باحث اجتماعي - من الأسلوب التقريري الذي تتبعه الرواية - و الهوامش التي و كما سنعرف لاحقاً، هي ملاحظات العقيد التي كتبها بلهجةٍ عامية قام الراوي بتفصيحها كما ينبغي لكاتب محترف ، بحيث اختفت أي لكنة من النص ، كما اختفت الشخوص و الأمكنة ، فعدا خط الزمان متسلسلاً تقطعه الهوامش ، و باستثناء أرقام الفصول الخمسة عشر ،فهناك فصل أخير هو ( أوّل الأمر) ، فإنها كلها تتبع خطاً زمنياً متسقاً حتى النهاية .
كل فصل من الرواية فيه نص هو ما ينقله الراوي على لسانه عن العقيد ، و فيه هامش يتلوه العقيد ذاته ، وهو ما قام بتنقيحه راوينا من الأوراق التي سلمها له العقيد ، و فيها ملاحظاته على سير العمل في القسم ١٤ و آراؤه فيما يحصل داخل المعسكر ، و اقتراحاته ، و بحثه الذي أجراه على الإنترنت .
من الملاحظ في النص التزامه بحياديه المكان و الشخوص و اللغة ، فباستثناء أثينا و المعسكر و منزل العقيد و منزل الضابط الأمريكي و المطار، لا توجد علامات تعرف من خلالها المكان الذي تقع فيه أحداث الرواية . و أيضاً الشخوص بلا أسماء ، كلها بلا استثناء ، حفاظاً على حياد العمل . و أكثر ما في النص حياداً لغة عباد المتينة التي اعتدناها ، و لكن هنا بلا كلمات عامية بتاتاً بعكس النفس الفلسطيني في كل ما يكتب ، ليس في الرواية كلمات دالة أو إزاحات إلى أي طرفٍ عربي سوى أن هذا الطرف صديقٌ للأمريكيين ، و إنشاء المعسكراعتراف باليد الأمريكية السابقة و رد للمعروف .
العمل هنا عمل أشبه بالبحث الإجتماعي ، و هو يفتقد للنفس الروائي ، فلا لغة وصفية أو شعرية هنا و لا تشويق ، و لا ارتقاء في الإثارة و لا نهاية غير مرتقبة ، هناك جفاف يشبه التقارير الصحافية و أعمال الدراسات الإجتماعية المنشورة . ربما في اللاوعي ، عملت خلفية عباد في علم الإجتماع و الصحافة ، أو محاولته و بقوة أن يترك الرواية بلا ملامح واضحة .
و سوى الإحالة على قضية الجنس و تدريب قواتٍ خاصة خالية من الملامح الشخصية و الفردية ، تتدرب يومياً لفض الإشتباكات بشكل آلي ، تلميحٌ إلى المستقبل الذي ترسمه القوة العظمى العالمية و قطبها الأوحد العالمي الأمريكي ، لقواتٍ ليست سوى قوى أمن تم سلبها من كلِّ مقومات الجيش و العسكرية المشرفة ، و إضاءة على جانب يحتل مقعد الصدارة في قوات العالم العربي التي تخلو كلياً من العنصر النسوي الذي يتعرض للكثير من الضغوط الجنسية في جيوش تلك الدول و انتهاك العرض و التحرش الجنسي ، فيعوض عن ذلك بوسائل ترفيه متعددة قد تصل إلى خدماتٍ جنسية ممنهجة لتقليل التوتر . سوى ذلك كله فالبحث يتركك بلا ملامح محددة ، هناك طرح فضفاض يوازي أعمال الواقعيين .
و بعكس يوسا الذي يضيف لمحة ساخرة إلى روايته ، يضع عباد في نهاية الرواية حالة توثق لشعور الشرقي العسكري ، الذي يحس أنه خان قسمه العسكري بامتهانه الترفيه الجنسي عن الجنود ، حتى تحول جيشه إلى آلة تمارس القتل و الجنس ، و تمتثل للسيد الأمريكي في القيادة المشتركة إلى الحد الذي تبدو فيه هذه المعسكرات تجربة يقوم بها الأمريكيون على أرض في هذا الشرق ، فالعقيد و صنوه المقدم المسؤولان في المعسكر يحاولان الخروج بسجلٍ نظيف من تسهيل ممارسة الرذيلة الممنهجة ، و بكل الوسائل الممكنة خوفاً من الفضيحة . الشرقي هنا يبرز في تناقضه العميق كما العسكري ، تناقض المتلقي السلبي الرافض ، فبينما يسهل عمل "الخدمة" و إنجازها بشكل واجب إلزامي ، يرفض الإنغماس في هذا الأمر ، مستنفذاً كل وسائل الضغط للخروج من القسم ١٤ سليم الشرف و السجل .
اللافت هنا أمر يكرره عباد و يوسا في النصين ؛ الضابط يتفوق في إنجاز عمله و يبرع فيه ، و لديه سجل نظيف حافل بالنجاح يحاول الحفاظ عليه كما ينبغي ، برغم كل الصراع الداخلي .
إن العقيد يعيش كما هو العسكري، و كما ينبغي للنص ( التقرير الذي بين يدينا ). النظام و الانتظام يتخلل ثنايا السياق و يتغلب على السرد ، حتى يخال لك بعد الانتهاء من القراءة أنك تسمع كلمة "نعم سيدي " في كل زوايا رأسك كرجيع الصدى . فإن كان هناك من شيءٍ نجح في نقله فهو رتابة الأمر العسكري و تسلسله بحيث أصبح النص امتثالاً لدواخل العقيد التي اعتادت كتابة التقارير الشهرية إلى القيادة المشتركة .